للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الاستسلام للأقدار الكونية والشرعية]

الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

إن العبد بحاجة إلى أن يؤكد معنى الاستسلام لله سبحانه وتعالى في نفسه كل يوم مرات ومرات، كما أمر الله عز وجل: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:١٦٢ - ١٦٣] تسلم لله سبحانه وتعالى، فحاجتك إلى ذلك مثل حاجتك إلى الطعام والشراب، وحاجتك إلى أن تجدد هذا المعنى في نفسك حاجة شديدة؛ لأن الإنسان تأخذه شهوات الدنيا بعيداً عن القضية الأولى في حياته، وهي أن يسلم الله وينقاد له.

ومعنى ثان من معاني الإسلام في قول المؤمن متابعاً للنبي عليه الصلاة والسلام: (أسلمت لرب العالمين) (اللهم لك أسلمت) فهذا معنى الاستسلام لأوامره الكونية القدرية التي لا يقدر على دفعها، فهو يفوض أمره إلى الله سبحانه وتعالى، ويسلم ما قدر الله سبحانه وتعالى عليه مما لا دخل له به.

وما يقدره الله عز وجل على الإنسان فمنه ما يكون له تعلق من خلال قدرته وإرادته، فهو الذي أقدره عليها، وهو الذي جعل له مشيئة فيها، وهذه لا بد أن يمتثل فيها شرع الله ناظراً إلى إعانته وتوفيقه ومستعيناً به سبحانه وتعالى، مستحضراً أن لا قوة إلا به، كما قال سبحانه وتعالى معلماً عباده أن يقولوا في الفاتحة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:٥] فهو يعبد الله، وهذا معنى الاستسلام لأمره الشرعي سبحانه وتعالى: ((وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) يستحضر فيه العبد أنه لن يوفق إلى ذلك إلا بإعانة الله، وإلا بتوفيقه عز وجل، ولا يهتدي إلا أن يهديه الله سبحانه وتعالى كما يقول أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:٤٣].

فهذا المعنى لا بد أن يكون مستحضراً، وذلك أن ما يتعلق بقدرة الإنسان وإرادته فالله عز وجل على كل شيء قدير، ومن ضمن هذه الأشياء ما يتعلق بقدرة العباد وإرادتهم، فهو سبحانه وتعالى الذي يشاء، ولا يشاء العباد إلا أن يشاء كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:٣٠]، وهنا تدفع القدر بالقدر، تدفع قدر المعصية بقدر التوبة، وتدفع قدر المخالفة بقدر الموافقة، تفر من قدر الله إلى قدر الله، وتدفع قدر الله بقدر الله مستعيناً به سبحانه وتعالى على طاعته فاراً من معصيته، قال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:٥٠]، تفر إلى الله منه، وتتعوذ بالله منه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك)، فالعبد يستعيذ بالله منه؛ لأنه يستحضر أن أمر الله سبحانه وتعالى الكوني نافذ فيه، ولن يوفق لطاعة الله وترك مخالفته إلا بإعانته عز وجل.