للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الاستدلال بتوحيد الربوبية على توحيد الألوهية]

قال تعالى: ((أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ))، هذا هو دليل توحيد الألوهية، والاستدلال عليه بتوحيد الربوبية، فهو وحده الذي فطر السموات والأرض، وخلقهما على غير مثال سابق، ((فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)).

فلا يمكن أن يقبل عقل إنسان أن هذه السماوات والأرض خلقت من غير شيء، ولا يقبل عقله بعد ذلك أن تصرف العبادة لغير خالقهما، ولغير خالق العباد.

إذا قررت وقبلت بأنها لابد لهما من خالق، وقررت أن له صفات الكمال، فلا بد وأن تعتقد أنه لا يعبد سواه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:٢١]، فتوحيد الربوبية أعظم دليل على توحيد الألوهية، وهو توحيد الرب بأفعاله، وهذه الأفعال آثارها ظاهرة جلية في الكون من المخلوقات والصنعة المتقنة المحكمة، وكل ما في السماوات والأرض من آيات هو أعظم دليل على أنه وحده الذي يستحق أن يركع له ويسجد ويرجى ويخاف ويحب، ويتوكل عليه، ويخضع له ويذل، ويرجى فضله، وترهب عقوبته، ويتحاكم إلى شرعه.

فهذا توحيد الربوبية وهو الدليل الأول على توحيد الألوهية.

قال تعالى: ((قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ)).

هذا هو الدليل الثاني على توحيد الألوهية وهو: الرحمة والمغفرة والمحبة.

وهذا الدليل قد جربه الرسل، جربوه إذ ساروا إلى الله، وقبلوا دعوته؛ فغفر لهم ذنوبهم، وهي تلك الذنوب التي كانت كالظلمات على القلوب، فلا تجعلها ترى حقائق هذا الوجود، ولا تجعلها تدرك صغر الدنيا، وحقارة الأرض وما فيها، وأنها ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه.

كأن هذه الذنوب تحول بين القلوب وبين خالقها وبارئها، وبين من قصرت في محبته والشوق إليه، فلما زال أثرها بالمغفرة من الله عز وجل، ذاقوا أعظم ما في الدنيا من لذة، ووجدت القلوب أعظم ما يمكن أن يوجد في هذه الدنيا وهو الشوق إلى الله ومحبته، والرضا به رباً وإلهاً، كما قال عليه الصلاة والسلام: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً).

وطريق المحبة طريق جربه الرسل؛ لأن الذنوب حواجز القلوب، فهي ران يرين عليها فلا ترى الحقائق، ولا تشعر بها، فلما غفرت الذنوب، واستجابت القلوب لدعوة الله، وجدت القلوب شيئاً جديداً لم تكن ذاقته من قبل، وعرفت الطريق إلى الله، كما قال شعيب عليه السلام: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود:٩٠]، عندما قال: ((اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ))، وجاء باسمه عز وجل (الرب) مضافاً إلى ضمير المخاطبين: (ربكم) وعندما ذكر وده ورحمته نسبه إلى ضمير المتكلم (إن ربي رحيم ودود).

وهكذا قال صالح عليه السلام: {إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود:٦١]، فقد جرب الطريق، وعرف حب الله سبحانه وتعالى، ولذلك دعت الرسل أقوامها إلى أن يستجيبوا لدعوة الله.

قال تعالى: ((يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ))، وهذا يرقق القلب فالله يريد بكم الخير، وأن تغفر لكم الذنوب؛ فاستجيبوا لدعوته، إن الله عز وجل لا يريد لكم الشقاء، الناس تظن أنها سوف تحرم من لذة الدنيا إذا التزمت، وفي الحقيقة سوف تتضاعف هذه اللذات، فهم ما جربوا الطريق؛ لذلك يرفضونه ويبتعدون عنه، ولو جربوه لذاقوا حلاوته، وعندما تخالط بشاشة الإيمان القلوب لا ترضى عنه بديلاً.

قال تعالى: ((يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى))، لو آمنتم به فسوف يمتعكم متاعاً حسناً، والله عز وجل علم ما كان، وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون.

ولا تعارض بين هذه الآية وبين قوله عز وجل: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:٣٤]؛ لأن الذي لا يستأخر ولا يتقدم هو الأجل الذي في علم الله، أي: في اللوح المحفوظ، وأما ما لم يكن لو كان كيف يكون، فهذا أجل مسمى آخر عند الله عز وجل، فعلم الله سبحانه وتعالى أنهم لو آمنوا لمتعهم، كما قال سبحانه وتعالى عن قوم يونس: {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس:٩٨]، فلو أنهم آمنوا لكان لهم مصير آخر ومتاع إلى حين، وإلى أجل مسمى عنده عز وجل.