نصر الله لبني إسرائيل وجعلهم أئمة يُقتدى بهم في الخير
قد بين سبحانه وتعالى استجابة بني إسرائيل لدعوة موسى بالتوكل على الله، وفهموا مفتاح الخير الذي دلهم عليه موسى صلى الله عليه وسلم، وهم يرون أمامهم عظيم التوكل على الله، فلا يخافون في الله لومة لائم، ويكثرون من الدعاء والتضرع: {فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [يونس:٨٥ - ٨٦].
فصاروا أئمة في تعليم الناس هذا الخير العظيم، وصار منهم أئمة يعلمون أهل الإيمان على الدوام كيف يدفعون فتنة الظالمين والكافرين، وكيف يتحملون أنواع البلايا والمحن متوكلين على الله عز وجل: ((فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا)).
وذلك لأن المحن تزيد الإيمان، وانعدام الأسباب الذي قد يتألم منه المؤمن هو في الحقيقة لمصلحته، فإن عامة قلوب البشر تتعلق بالأسباب، فمن رحمة الله عز وجل أن يقدر لهم مراحل من سيرهم، ومن دعوتهم، وفي صراعهم مع عدوهم أن تنعدم الأسباب، وذلك حتى تخلص القلوب لله: ((عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا)).
فقدم الجار والمجرور؛ للاختصاص وللاهتمام، ولأنه لا يوجد سبب يأخذون به، وفرعون متسلط أعظم التسلط، فقد حصرهم قبل ولادتهم، وقد أحاط بهم هو وجنوده، وجنوده والعياذ بالله مطيعون طاعة تامة مهما كانت الأوامر، ظاهرة في الظلم والطغيان والكذب والباطل، فقد وجد من يصدقه في أنه الرب الأعلى، ووجد من يصدقه في أنه لا يوجد لهم إله غيره، ووجد من يبني له الصرح؛ لعله يبلغ السموات ليطلع إلى إله موسى، ووجد من يقتل له السحرة، فهم كما قال الله عز وجل عنهم: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف:٥٤].
فالفسق هو الذي أدى بهم إلى ذلك، وكثرة الخروج على شرع الله سبحانه وتعالى، والمداومة على ذلك أدى إلى هذه النوعية العجيبة من البشر الذين يطيعون حتى في الدخول إلى البحر المنفلق أمام أعينهم بعصا موسى، فعجباً لهؤلاء القوم! ماذا يصنع الفسق بأصحابه؟! ماذا تصنع المعاصي؟! ماذا تصنع بهم من طمس البصائر وانعدامها بالكلية والعياذ بالله؟! وانعدام الفهم، والفسق يؤدي بهم إلى الطاعة العمياء، والتقليد الذي لا نظير له في حياة البشر، نعوذ بالله من ذلك، فهذا كله من شدة الأمر على بني إسرائيل، وهذا لمصلحتهم لتحقيق كمال التوكل: ((عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا)) ثم دعوا ربهم هذا الدعاء العظيم: ((رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)).
التفسير فيها على وجهين، الوجه الأول: ربنا لا تجعلهم يفتنوننا، وهذا موافق للسياق من أوله؛ لأنهم على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم، فإذا كان أهل مصر على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم، وهم من قومهم ومن جلدتهم فكيف ببني إسرائيل؟! لا شك أنهم أشد خوفاً، وهم يخافون أن يفتنهم فرعون وجنوده.
الوجه الثاني: ربنا لا تجعلنا فتنة لهم، أي: لا تجعلنا إذا هزمنا وقتلنا وفشلنا سبباً لفتنتهم هم، وسبباً لظنهم أنهم على الحق، فإن أكثر الأمم يظنون أن الحق هو الانتصار، ولذلك يكونون تبع المنتصر القوي، حتى ولو كان باطله أظهر من شمس النهار، وحتى لو كان ظلمه وعدوانه لا يتنازع فيه اثنان، ولكن أكثر الناس عندهم الحق هو القوة، وأن من غلب فهو صاحب الحق، والمغلوب محقوق وظالم ومجرم يستحق أنواع العقاب، وهكذا عند الناس، فإذا هزم أهل الحق كان ذلك سبباً لفتنة أهل الباطل، فهذا وجه حسن في التفسير بمعنى: أنهم يخافون أن يصيروا فتنة للقوم الظالمين، أي: أن يكونوا سبباً لفتنتهم، سبباً لبقائهم على الكفر، يقولون: لو كان هؤلاء على الحق لما انتصرنا عليهم، وطالما أننا انتصرنا عليهم فهم على باطل، فيظنون أنفسهم أنهم على الحق، فيفتنون أمماً وأجيالاً تلو أجيال ونعوذ بالله من ذلك، وكلا المعنيين في تفسير الآية صحيح، فالمؤمنون يحتاجون إلى أن يثبتهم الله حتى لا يفتنوا، لأن التثبيت ليس من عند أنفسهم، فالتثبيت من الله، فهو سبحانه مقلب القلوب، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني، أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون).
فيتوسل النبي صلى الله عليه وسلم بأنواع التوسلات إلى الله عز وجل كالإلهية، وبأنه سبحانه وتعالى الحي الذي لا يموت، وبأن الخلق ضعفاء، ويتوسل بالإسلام، وبالإيمان، وبالتوكل، وبالإنابة، وبالمخاصمة لله عز وجل، وبه سبحانه وتعالى؛ حتى لا يضله الله، ويتوسل بعزة الله (أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني، أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون) فإذا كان هذا توسل النبي صلى الله عليه وسلم واستحضار حاجته إلى التثبيت، وقد قال الله عز وجل له: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء:٧٤]، فكيف بحاجتنا عباد الله، وليس لنا من العصمة ما للنبي عليه الصلاة والسلام؟! إن حاجتنا إلى أن يثبتنا الله، وأن ينجينا من الفتن، وأن يهدي قلوبنا حتى نلقاه مؤمنين، لهو أشد من حاجة الغريق الذي يغرق، ولا أحد يغيثه إلا ربه سبحانه وتعالى، فهو يتوسل إليه ويستغيث به موحداً له، ولو أشرك في غيره من المواطن، فالله سبحانه وتعالى يريد منا أن نوحده بالاستغاثة والاستعانة واللجوء إليه، والتثبيت إنما هو منه سبحانه وتعالى، فهو مقلب القلوب، فاللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك.
وأما المعنى الثاني وهو: خوف الفتنة على الناس، فهو معنىً عظيمٌ في قلب الداعي، حيث أنه ليس فقط يبحث عن مستقبل نفسه ونجاته وتثبيته، بل يبحث عن مستقبل أهل الأرض، ولا يريد أن يفتن الناس، ولا يريد أن تكون هزيمة أهل الحق سبباً لبعد الناس عن الدين، فهو يريد أن يهتدي الخلق، وأن يظهر الإسلام، ويظهر الحق ليس فقط لكي يستمتع بالنصر والتمكين، أو يستريح بعد العناء، أو ليجد لذة ونعمة الأمان بعد الخوف، وإنما يريد أن يظهر الحق، وأن يعلو الإسلام ليؤمن الناس؛ وليدخلوا في دين الله أفواجاً، وليهتدي من شاء الله سبحانه وتعالى له أن يهتدي، فالله عز وجل جعل قلوب المؤمنين خير القلوب، وإن خير أمة أخرجت للناس هي أمة محمد صلى الله عليه وسلم، يريدون الخير للناس، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالله، فهم خير الناس للناس، يودون أن يهتدي الخلق، وأن يعرفوا ربهم عز وجل قالوا: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ} [يونس:٨٥ - ٨٦].
فنحن لا ننجو بحسن تدبيرنا، ولا بتخطيطنا، ولا بذكائنا، ولا بأعمالنا، وإنما برحمة الله {وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ} [يونس:٨٦].
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين! اللهم أنج المستضعفين من المسلمين في كل مكان.
اللهم فرج كرب المكروبين، وفك أسر المأسورين، وارفع الظلم عن المظلومين، اللهم انصر المجاهدين والدعاة إليك في كل مكان، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا.
اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا، اللهم إنا نسألك بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق، أحينا ما علمت الحياة خيراً لنا، وتوفنا ما علمت الوفاة خيراً لنا، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الفقر والغنى، ونسألك نعيماً لا ينفد، ونسألك قرة عين لا تنقطع، ونسألك برد العيش بعد الموت، ونسألك الرضا بعد القضاء، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين.