للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ظهور آثار أسماء الله الحسنى وصفاته العلى]

ومن أعظم ذلك وأهمه: ظهور آثار أسماء الله الحسنى وصفاته العلى لعباد الله المؤمنين في هذا الوجود، فالله عز وجل تعرف إلى عباده بأسمائه وصفاته في كتابه، وتعرف إليهم بآثارها في هذا الكون الواقع المشهود، فالله عز وجل يريد أن يظهر لنا نفاذ إرادته عز وجل، فإرادته سبحانه وتعالى نافذة، ومشيئته نافذة، ويريد أن يظهر منته على المستضعفين، وإرادته في كسر الجبارين المتكبرين، ولن يقع ذلك إلا بوجود الاستضعاف أولاً، ثم المن على المستضعفين ثانيا، كما قال تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:٥ - ٦]، فالله عز وجل فعال لما يريد، فهو يظهر للناس ذلك بوجود هذه البلايا والمحن وهذه الآلام ليظهر بعد ذلك أنه العزيز وأنه ذو انتقام، وأنه سبحانه وتعالى المنان، وليظهر ملكه سبحانه وتعالى، فقد كان لا بد من إعزاز وإذلال، ولابد من تقليب الممالك ليعلم الناس أن الملك لله وحده لا شريك له، قال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:٢٦ - ٢٧]، فلابد من تداول الملك، فيوم لنا ويوم علينا، ويوم نساء ويوم نسر، ولابد من أن يحدث الإعزاز والإذلال لنعلم أن الله وحده هو المعز المذل، وأنه وحده هو الخافض الرافع، ولابد من محن وآلام ليعلم الناس أن الله وحده هو سبحانه الذي يكشف الكرب ويذهب الغم، فاللهم كاشف الغم ومذهبه، مجيب دعوة المضطرين، رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما ارحمنا رحمة تغنينا بها عن رحمة من سواك.

ومن ذلك: إظهار أنه سبحانه وتعالى المولى والنصير، وأنه سبحانه وتعالى العزيز، قال عز وجل: {بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} [آل عمران:١٥٠]، وقال سبحانه وتعالى: {نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الأنفال:٤٠] سبحانه وتعالى، فكيف يحدث ذلك إذا انتصر المسلمون بقوتهم أو إذا انتصروا بعدتهم؟! فهم إنما ينتصرون بنصر الله وتوفيقه عز وجل، فالله مولى الذين آمنوا والكافرون لا مولى لهم.

فيظهر ذلك عندما تحدث هذه الآلام والبلايا والمحن ثم ينصر الله عباده المؤمنين رغم ذلك كله ليظهر أنه سبحانه وتعالى مع المؤمنين، وتظهر آثار معيته عز وجل التي يستحضرها أهل الإيمان الذين يظنون أنهم ملاقوا الله، قال سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:٢٤٩ - ٢٥١].

والأمر أمره سبحانه، فهو تعالى يقلب القلوب كيف يشاء، ولولا أنه عز وجل أزاغ قلوب من شاء ثم هداهم لما علمنا ذلك، أما دعا الرسول عليه الصلاة والسلام على أقوام فقال: (اللهم العن فلاناً وفلاناً، اللهم العن رعل وذكوان وعصية عصت الله ورسوله)، ثم أنزل الله عز وجل عليه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:١٢٨]؟! ولقد كان عكرمة وسهيل بن عمرو وأمثالهما ممن سماهم عليه الصلاة والسلام في دعائه، فتاب الله عز وجل عليهم لنعلم أنه عز وجل وحده الذي له الأمر، وأنه وحده مقلب القلوب، ولنلتجئ إليه سبحانه وتعالى في تثبيت قلوبنا ودوام الهداية علينا، فالله سبحانه وتعالى هو الذي هدى وهو الذي يمن سبحانه وتعالى باستمرار الهداية، ولذا كان يقول الصحابة: والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول معهم: إن الألى قد بغوا علينا وإن أرادوا فتنة أبينا ويمد صوته بها كما يمدون؛ لأنهم يلجئون إلى الله ويعلمون تقليبه للقلوب وللأقدام، فهو الذي يثبت من يشاء سبحانه وتعالى، ليرينا سبحانه وتعالى أنه الغالب على أمره، فلولا بيع إخوة يوسف له لما كان له من السلطان عليهم بعد ذلك، ولولا دخوله السجن لما كان له الملك بعد ذلك {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:٢١]، فهو سبحانه وتعالى ما شاءه كان وما لم يشأ لم يكن، {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:٥٦]، قال عز وجل: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة:٢١].

كل هذه أسماء وصفات وأفعال لله عز وجل يرينا آثارها بوجود تلك الآلام، ولا يمكن أن تظهر لنا إلا من خلال هذه الآلام والمحن، ليرينا سبحانه وتعالى أنه يمهل ويحلم، فيمد للظالم مدة من عمره يمهله فيها ويأتيه من نذر الله ما يأتيه، فإذا تاب إلى الله عز وجل غفر الله له، كما قال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بعباد يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم)، ألم تسمع لقوله تعالى بعد أن ذكر إجرام المجرمين في قصة أصحاب الأخدود وقتلهم أولياءه سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:١٠]؟ قال الحسن: انظروا إلى هذا الكرم! قتلوا أولياءه ثم يدعوهم إلى التوبة.

فهو سبحانه يتوب على من يشاء، وربما نرى في أعدائنا من يتوب الله عز وجل عليه بعد ذلك.

وكذلك يرينا ربنا قدرته عز وجل وإملاءه لمن لم يتب منهم، قال سبحانه: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:١٨٣]، ليظهر لنا متانة كيده عز وجل، وقال تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطارق:١٥ - ١٧]، وقد نزلت هذه الآيات ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة محاصر مستضعف، ونفذ ما أراد الله عز وجل في سنوات معدودة كما وعد عز وجل، فهو سبحانه وتعالى الذي يكيد، ويستدرجهم من حيث لا يعلمون، ولا تظن أنه سبحانه وتعالى غافل، بل هو على كل شيء شهيد، وهو عز وجل لا يغيب عن خلقه ولا يغيبون عنه سبحانه وتعالى، فهو على كل شيء شهيد عز وجل، أي: لا يغيب عن تدبيره وملكه، وإلا فهو سبحانه وتعالى حجابه النور كما قال عليه الصلاة والسلام.

فكل أسمائه وصفاته لها آثارها في هذا الوجود، ولابد من أن تظهر، وهو يحب أن يتعرف إلى عباده من خلال أفعاله ومقاديره عز وجل، فمن أجل ذلك قدر الآلام التي هي كثيرة ومؤلمة لنا.