انظر إلى كرم سيدنا يوسف عليه السلام حيث سمع منهم كلمة تسيء إليه وهو قادر أن يعمل فيهم ما يشاء، ولكنه أسرها في نفسه ولم يعمل معهم شيئاً! ومن أول الوقت الذي رآهم فيه كان يستطيع أن يأمر بسجنهم فيسجنوا، أو بضربهم فيضربوا، بل لو أمر بقتلهم لقتلوا، ومع ذلك لم يعمل شيئاً من هذا، وغاية ما كان منه أنه قال لهم:{هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ}[يوسف:٨٩]، فكل ما عمل بهم أنه عاتبهم بهذه الكلمة فقط، فهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: من أكرم الناس؟ فقال:(الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، نبي الله يوسف بن نبي الله يعقوب بن نبي الله إسحاق بن خليل الله إبراهيم).
والله! إن هذا شرف عظيم، وهو أن يكون أكرم الناس نسباً عليه السلام، وأنه تربى في بيت النبوة، وكرم يوسف عليه الصلاة والسلام تجده من أول كلمة في القصة، وفي أدبه مع أبيه، فانظر وقارن بين أدب يوسف وإخوته؛ لأن بعض الناس يقولون: إن يعقوب عليه السلام فاضل بين أولاده، ولأجل ذلك وقع منهم ما وقع، وهذه كلمة خاطئة؛ فسيدنا يعقوب ما فاضل المفاضلة المذمومة.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم:(اعدلوا بين أولادكم) أي: في العطاء، فواجب الأب والأم عندما يعطيان الأولاد أن يعدلا في العطاء المادي، أما في الحب فهذا مبني على الصفات، فمن أدب يوسف أنه قال: يا أبت! فهذا أدب عظيم، فكلمة (أبت) فيها الأدب والاحترام والرقة، والكسرة التي في التاء في كلمة (أبت) فيها انكسار وخضوع، يقول الله جل وعلا:((وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ))، فالمسألة فيها خضوع، و (يا أبت) تختلف عن (يا أبي) مع أن (أبي) كلمة جميلة، لكن أبت فيها رقة أكثر، فكان بين يوسف أبيه ود واحترام عظيم، وفي نفس الوقت إخوة يوسف يقولون عن أبيهم:{إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}[يوسف:٨] ففيها سوء أدبهم مع أبيهم، وهو نبي الله، وهم لا يُعذرون بالجهل، فاتهموا أباهم وهو نبي ابن نبي ابن نبي بأنه في ضلال مبين، وهم يعرفون ما يجوز إطلاقه على الأنبياء وما لا يجوز، وقالوا مرة أخرى:{تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ}[يوسف:٩٥] ويحلفون جازمين بذلك، فانظر إلى هذه الكلمات الفظيعة والعياذ بالله! فمقياس التفضيل هو: الصفات الطيبة، كالتعليم والكرم والإحسان، فسيدنا يوسف أي إنسان يراه يهابه ويقدره، فالملك لما كلمه {قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ}[يوسف:٥٤] وهو في تلك الرفعة.
وصاحبه في السجن يقول:{يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ}[يوسف:٤٦]، وصاحباه في السجن بمجرد ما دخلا السجن قالا له:((إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)).
وإخوته وهم لا يعرفونه قالوا له:{فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}[يوسف:٧٨]، فسيدنا يوسف كرمه بائن جداً، فهو كريم فعلاً، والكرم هذا قد ظهر منه ظهوراً بيناً، فصفات النجابة ظاهرة عليه؛ ولذلك أحبه يعقوب، عندما تقرأ القصة ستحب يوسف وتبغض إخوته قطعاً، فتخيل ما مدى حب أبيه له! فعندما استأذنوه أن يخرج معهم {قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ}[يوسف:١٣]، فيشق عليه مفارقته مدة قصيرة من النهار، ولكن لحاجته إلى اللعب أذن لهم؛ لأنه محتاج أن يرتع ويلعب، ولكن كان حزيناً عليه في هذه المدة، ثم يأتيه الخبر أنه: أكله الذئب، يعني: لن تراه بعد الآن، فبقي عدة سنين وهو متألم لفقد يوسف عليه السلام، فحبه ما زال في قلبه.
وانظر خداع إخوة يوسف حين قالوا:{يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ}[يوسف:٩]، والأمر بالعكس، فعندما يؤذوا يوسف لن يخلوا لهم وجه أبيهم، وإنما سيزداد حباً له وبغضاً لهم، وهكذا الشيطان يزين المنكر، ويصور للعاصي أنه سيحصل على أعظم المكاسب، ولكن الحقيقة على العكس، مثل إخوة يوسف، فلم يخل لهم وجه أبيهم، بل ظل يعقوب على حبه ليوسف رغم أنوفهم.
ثم شمَّ ريحة يوسف عليه السلام على مسافة مئات الكيلومترات؛ لأنهم خرجوا من مصر وهو في فلسطين، قال الله:{وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ}[يوسف:٩٤] فبمجرد خروج العير من مصر وانفصالها منها؛ شم رائحة يوسف، فجاءوا بقميصه وبخبر الفرج، فلما شم ريحة يوسف رد الله له بها بصره.
فحب يعقوب عليه السلام ليوسف كان له ما يبرره قطعاً بلا شك، فهو الذي نشأه ورباه وعلمه، وهو يعلم أن الله سيصطفيه، ويعلم أن الله سيجعله نبياً، فيعقوب عليه السلام وضع الأشياء في مواضعها، وأحب يوسف؛ لأنه ينبغي أن يحب، ولم يحب إخوته مثله؛ لكونهم ليس فيهم الصفات التي في يوسف عليه السلام، بل اجتمعت فيهم خصال المنافقين، كما في الحديث:(إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، وإذا اؤتمن خان) فاكتملت هذه الصفات فيهم، وهذه القصة من ضمن الأدلة على أن النفاق أكبر وأصغر؛ لأن هؤلاء اجتمعت فيهم هذه الصفات ولم يكفروا.