[الأعمال سبب النجاة أو الهلاك، والنصر أو الهزيمة]
ثم قال تعالى بعدما وصفهم بما وصفهم: ((أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ)) أي: جزاؤهم على هذه الصفات مغفرة من الله ((وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ)) أي: من أنواع المشروبات: من خمر، وعسل، ولبن، وماء غير آسن، ((خَالِدِينَ فِيهَا)) أي: ماكثين فيها، ((وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ)) يمدح الله تعالى الجنة.
هذه الآيات الكريمة في وسط الآيات في سورة آل عمران في ذكر غزوة أحد، وقد يستغرب البعض من ذكرها في هذا الموضع بعد قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً))، ثم حذرهم سبحانه وتعالى من النار، وبين صفات أهل الجنة، فنقول: العلاقة بين ما ذكر قبل وبعد قصة غزوة أحد وثيقة جداً؛ وذلك أن المؤمنين إنما يواجهون عدوهم ويواجهون الصراع بين الحق الذي معهم والباطل الذي يعانيهم؛ إنما يواجهونه بأعمالهم فإذا كانت أعمالهم وصفاتهم على الوجه الذي يحب الله سبحانه وتعالى ويرضى وعلى وفق ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم كان في ذلك النصر بإذن الله.
ولذا بوب البخاري باب: عمل صالح قبل القتال.
وقال أبو الدرداء: إنما تقاتلون بأعمالكم، وإذا كان الناس يحاربون الله عز وجل، ويحاربون رسوله صلى الله عليه وسلم بأكل الربا فكيف يتصور أن يكونوا ناصرين لدين الله، وهم لم ينصروه في أنفسهم؟ وكيف يتصور أن ينتصروا على عدوهم عدو الله، وهم لم ينتصروا على أنفسهم؟ فكان هذا الأمر وثيق الصلة بأمر القتال والحرب، بل وبكل صراع يجري بين الحق والباطل، فإذا كان الربا منتشراً في أمة فهذا من علامات خرابها وضياعها، وقد يقول البعض: فالكفار يتعاملون بالربا فلماذا يسودون؟ نقول: إن الله سبحانه وتعالى يعامل أهل الإيمان والإسلام بغير ما يعامل به أهل الكفر والنفاق والعياذ بالله؛ وذلك أن الله عز وجل يبتلي أهل الإيمان والإسلام ليرحمهم، ويسلط عليهم عدوهم ليكفر عنهم سيئاتهم سبحانه وتعالى، كما قال عز وجل: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} [الإسراء:٨] فلما ابتعد أهل الإسلام والإيمان عن دينهم سلط عليهم بذنوبهم أعداءهم، قال عز وجل: {وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا * عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} [الإسراء:٧ - ٨].
أما أهل الكفر فإنه يملي لهم سبحانه وتعالى حتى إذا أخذهم لم يفلتهم، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:١٠٢].
قال عز وجل: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:١٨٣].
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته).
فالله عز وجل يبتلي أهل الإيمان والإسلام ومن خرج منهم عن طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بما يبتليهم به سبحانه وتعالى ليطهرهم، فلذلك لا يقولن أحد: لماذا الكفار ممكنون في الأرض؟ فهذا من إملاء الله لهم حتى إذا أخذهم لم يفلتهم سبحانه وتعالى.
أما أهل الإسلام فلهم شأن آخر، إذا أكلوا الربا أضعافاً مضاعفة -وسيأتي الكلام أن ذلك ليس له مفهوم- فلا ينتصرون على عدوهم؛ ذلك أن الربا حرب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:٢٧٨ - ٢٧٩]، فكيف ينتصر من يحارب الله ويحاربه الله سبحانه وتعالى؟ لذلك إذا رأينا أمة الإسلام تترنح تحت سلطان عدوها فلنعلم أن من أعظم أسباب ذلك انتشار الربا في مشارق أرض أهل الإسلام ومغاربها، وأكله صريحاً وبالشبهات، وبالحيل المحرمة التي حرمها الله سبحانه وتعالى، وأوضحه: الاقتراض بالفائدة مع الزيادة سواء يقترض الإنسان أو يقرض، سواء كان ذلك مع أفراد أو مؤسسات، فإن ذلك كله من الربا المحرم بلا شبهة ولا تردد، فإن توقيف ووضع الأموال في المؤسسات المالية كالبنوك وغيرها عند أهل القانون أنه كالدين والقرض، وإن سمي بأسماء أخرى، فأهل الاقتصاد متفقون على أن هذا حكمه حكم الدين، فهو يداين المؤسسة البنكية بهذا المبلغ، وبعض البنوك تقرض الناس ويسمى قرضاً صراحة، وإن سمي ائتماناً فليس بائتمان، وإنما هو قرض بزيادة، وهذا مما لا يختلف فيه أهل الاقتصاد أنفسهم في توثيق هذا العقد، وفي توثيق هذه المعاملة، والذي أتى بهذه الأشياء واصطنعها هم أهل الغرب، وهم يسمون هذه الأشياء على حقيقتها، ويوثقون العقد توثيقاً صحيحاً، فأكل الربا وتأكيله -والعياذ بالله- من أعظم أسباب المصائب التي نزلت بالمسلمين نسأل الله العافية.
ثم بين سبحانه وتعالى الصفات الواجبة التي يجب أن توجد في أهل الإيمان والمستحب منها حتى ينتصروا على عدوهم، ولذا سمعنا الحديث: (ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب).
وهذه الصفات الحسنة الجميلة لابد أن يقف الإنسان عندها، ويتأمل في نفسه، ويتدبر هل حققها أم لا؛ ليعلم لماذا ينتصر المسلمون؟ ولماذا ينهزمون؟ فإنهم ينتصرون إذا تحققوا بهذه الصفات، وينهزمون إذا تخلفت هذه الصفات المذكورة في قوله عز وجل: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:١٣٤].
إذاً: هناك ارتباط وثيق بين المعركة في الخارج والمعركة في الداخل، فالمعركة في الخارج مع الأعداء الذين نريد أن ننتصر عليهم مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالانتصار في المعركة الداخلية في داخل كل واحد منا مع نفسه، هل انتصر عليها أم لا؟ ولذا ثبت في الحديث الصحيح: (والمجاهد من جاهد نفسه في ذات الله) ولا نقول كما في الحديث الضعيف الآخر: (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر)، بل نقول: إن الجهاد للأعداء هو الجهاد الأكبر، ولكن هذا الجهاد الأكبر مبني على أسس وقواعد كالبناء المرتفع، ولابد أن يكون له قواعد في الأرض، وإذا كان فوق الأرض بلا قواعد ما أسهل أن تأتيه أدنى هزة فتزيله وتهدمه، فكذلك نقول: الجهاد الذي هو جهاد أعداء الله سبحانه وتعالى في الخارج فرع على جهاد النفس الأمارة بالسوء، والشيطان، والشهوات المحرمة في الداخل، وكذلك الأمة المؤمنة عندما تجاهد عدوها، فهذا الجهاد فرع على الجهاد الداخلي داخل المجتمع المسلم نفسه حتى يتهيأ ويعد بوجود الصفات الصالحة في أفراده، والتوافق والبناء على طاعة الله عز وجل بين أفراده؛ ولذلك إذا دخلنا معركة وقد انتشر الربا، ولم يتق الناس الله عز وجل ربهم، وانتشرت الصفات القبيحة، وقلَّت الصفات المحبوبة لله عز وجل، فما الظن بنتيجة هذه المعركة؟ ما نظن قبل الدخول إلا ما أخبرنا عز وجل، وهذا من معرفة سنن الله عز وجل التي قال عنها بعد هذه الآية: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران:١٣٧].
وهناك ارتباط وثيق جداً بين صفة الأفراد وصفة المجتمع وبين نتيجة المعركة إذا دخلها المسلمون، ولا يلزم من ذلك أن يكون أهل الكفر على نفس الموازين، لا، بل أهل الكفر لهم موازين أخرى؛ لأن الله عز وجل يملي لهم؛ لأنه سبحانه وتعالى يفتح عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذهم بغتة فإذا هم مبلسون سبحانه وتعالى.
إذاًَ: المسألة كما ذكرنا صراع في أحد طرفيه، فأهل الإسلام لابد أن يعرفوا سنن الله عز وجل في الصراع بين الحق والباطل، وبين أهل الإيمان، وبين أهل الكفر، وأن ذلك مرتبط بالأعمال وبالصفات الأساسية، لذلك لا نستغرب ولا نتعجب مما أصاب المسلمين في المشارق والمغارب، وما حل ببلادهم وشعوبهم من أنواع المكاره، كيف لا؟ والربا على تلك الحال المعروفة في أكثر بلادهم إن لم نقل كل بلادهم ولا حول ولا قوة إلا بالله.