ولقد قص الله عز وجل علينا في كتابه موافق إبراهيم العظيمة في الدعوة إلى الله وتوحيده، وإقامة أمره ودينه.
مع قلة من استجاب له من قومه؛ فإنه لم يستجب له إلا رجل واحد، وامرأة واحدة، فاستجاب له لوط، كما قال عز وجل:{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ}[العنكبوت:٢٦] وأخبر سبحانه وتعالى أن امرأته كانت معه، فامرأته سارة وابن أخيه لوط هم ثمرة هذه الدعوة في زمنه، وإن كانت ثمرة هذه الدعوة لا تقاس في زمن الداعي فقط، وإنما تُرى آثارها في الأرض، وأنت إذا رأيت هذه البقعة التي لا زرع فيها ولا نبت ولا ماء ولا شيء يذكر، وإنما هي بين صخور صماء، ومع ذلك تجدها أكثر بقعة في الأرض يؤمها الناس؛ فإنه يؤمها ملايين من البشر في كل ليل ونهار، فضلاً عن وجوه مئات الملايين التي تتوجه إليها، إذا رأيت ذلك علمت ثمرة الدعوة إلى الله عز وجل، وكيف تكون؟ وعلمت أن دعوة صادقة تغير وجه الحياة على ظهر الأرض، كما دعا إبراهيم فقال:{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}[إبراهيم:٣٧].
فسبحان الله! تجد هذه البقعة التي لا ثروات فيها بوجه من الوجوه؛ فلا أرض تزرع، ولا معادن ينقب عنها، ولا سماء تمطر عليها، إلا في النزر اليسير، فلا أنهار تجري، ولا عيون تنبع، إلا عين زمزم التي إنما تفي بالشرب لا للزرع، ومع ذلك تجد هذه البقعة أكثر البقع -بحمد الله تبارك وتعالى- تهفو إليها القلوب، وتحن إليها، ولا يرى أحد أنه قد قضى منها وطراً، بل هي أمل الملايين من المسلمين، ولو علم الكفار ما في الراحة والسعادة في التوجه إلى هذه البقعة، وفي التواجد فيها، وفي عبادة الله عز وجل على أرضها، لما عدلوا عن الإسلام بديلاً، ولما رضوا بغير هذا الدين؛ لأن الله جعل هذا البيت هدى للعالمين، ولما لم يذوقوا طعم العبادة في هذا المكان رضوا بأن يتوجهوا إلى غيره، فقلوبهم مفطورة على أن تتوجه إلى هذه البقعة، لولا ما عفا عليها من الشرك والتبديل والتحريف، ولا حول ولا قوة إلا بالله! ولقد ذكر الله عز وجل دعوة إبراهيم عليه السلام لأبيه وقومه، وبين لنا الأسوة الحسنة في الدعوة إلى الله عز وجل في إبراهيم عليه السلام.
يخبر الله عز وجل عن إبراهيم أنه كان صديقاً، ومقام الصديقية جزء من مقام النبوة، وذلك أن الصديق عظيم التصديق، كثير اليقين، فهو يوقن بما أخبر الله عز وجل به من الغيب، ويصدق بكل ما أخبره الله عز وجل به.
ومن كان كذلك فقد وصل إلى مراتب الإيمان العليا، وإبراهيم عليه السلام أراد أعلى المراتب، ولذا سأل ربه فقال:{رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[البقرة:٢٦٠].
علم إبراهيم أن المخبر ليس كالمعاين، فأراد المعاينة لهذا الأمر الغيبي، وهو كيفية إحياء الموتى، وليس ذلك شكاً منه عليه السلام كما قال النبي عليه الصلاة والسلام:(نحن أحق بالشك من إبراهيم) فإبراهيم لم يشك، ومحمد صلى الله عليه وسلم لم يشك، بل آمن كل منهما، ولكن أراد إبراهيم أن يرى بعينه، وذلك أن رؤية العين أكمل في حصول اليقين، ولذلك منَّ الله بها على نبيه صلى الله عليه وسلم في آياته الكبرى يوم المعراج كما قال عز وجل:{أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}[النجم:١٢ - ١٨].
فرأى جبريل عليه السلام على صورته التي خلقه الله عليها، ورأى الجنة والنار، ورأى سدرة المنتهى يغشاها ألوان لا يقدر على أن يصفها من حسنها، وغشيها فراش من ذهب، رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بعينيه، ورُفع إلى مستوى يسمع صريف الأقلام، وهذه منزلة عالية له عليه الصلاة والسلام.