للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[معان إيمانية]

وهناك معان إيمانية لا بد أن يستحضرها المؤمن عندما يمر بظروف تشبه الظروف التي مر بها أنبياء الله سبحانه وتعالى من قبل، وأول هذه المعاني: أن يشهد المؤمن قضاء الله عز وجل وقدره وحكمته وعدله سبحانه وتعالى، ويشهد أن الأمور كلها بقضائه سبحانه، قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:٤٩]، وهذا من أعظم ثمرات الإيمان.

وأن يشهد خلق الله عز وجل لأفعال العباد، وأنه هو سبحانه وتعالى الذي جعلهم كذلك؛ ليستحضر عظمة ملك الله، وليستحضر عزته وقهره عز وجل، فانظر وتأمل في قول موسى صلى الله عليه وسلم وهو يدعو ربه عز وجل: {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:٨٨] فإن موسى عليه الصلاة والسلام لم يستحضر في هذه اللحظة أن فرعون عنده كذا وكذا من المال والجنود والملك والسلطان، وإنما استحضر أن الله آتاه فقال: (ربنا إنك آتيت) فلم يستحضر إلا أن فرعون آلة لنفوذ قضاء الله وقدره، وهذا من أعظم الأمور أهمية، وهو أن يرى العبد أن من يواجهه من الكفرة والظلمة وأعداء الإسلام أضعف وأذل من أن يرجوهم أو يخافهم، أو أن يظن أن الأمور بأيديهم، وعدم استحضار هذا المعنى يجعل الناس يسيرون في ركب الظالمين، ويداهنون الكافرين، ويوالونهم، وقد ذكر الله عز وجل عن المنافقين ذلك؛ لأنهم يخشون أن تكون الدولة للكافرين والظالمين، وأن تكون الغلبة لهم، ويخشون أن تكون هناك مرحلة أخرى فهم يعدون العدة لذلك، وحينما يكون الأمر للكفرة والظلمة فإن أكثر الناس يتبعونهم؛ وذلك لأنهم استحضروا أن الملك لهؤلاء كما قال عز وجل: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ} [النساء:١٣٨ - ١٣٩] فقد فضحهم الله عز وجل وبين حقيقة ما في قلوبهم، فهم يتولون الذين كفروا؛ لأنهم يبتغون عندهم العزة، ويعاونونهم على الفساد؛ لأنهم يريدون من المفسد مكانة ومنزلة، ولو استحضروا أن الملك لله، وأن الله هو الذي آتى فرعون وملأه {زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس:٨٨]، وأنه سبحانه هو الذي قدر أن يوجد من يضل عن سبيله، وفي قدرته أن يمحوهم في لحظة، وفي قدرته سبحانه وتعالى أن يزيلهم من على وجه الأرض، ومع ذلك قدر أن الكافرين يضلون عن سبيله؛ لأن هناك قلوباً خبيثة، وهناك نفوساً قبيحة، فلا بد أن يخرج ما فيها من الخبث، كالمغناطيس يجذبها إلى أمثالها كما قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ * لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال:٣٦ - ٣٧].

فالله عز وجل جعل الكفار ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله، مع أن إنفاقهم سيكون بعد ذلك عليهم ((فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ)) أي: يتحسرون؛ لأنهم لا يجدون ثمرة لما يفعلون، بل يجدون عكس ما يريدون من صد الناس عن سبيل الله، وفي نهاية الأمر ((ثُمَّ يُغْلَبُونَ)) وتأمل ذكر (ثم) في هذا الموضع وهي للتراخي؛ ولكي لا تستعجل، ولكي تطمئن ويسكن قلبك، وتعلم أن الأمور كلها بمقدار، وأن لها موعداً محدداً، ولا تقل: لماذا لم يأخذهم الله الآن؟ لماذا تركهم الله يفسدون في الأرض؟ ((ثُمَّ يُغْلَبُونَ)) فسوف يأتي زمن يطول أو يقصر؛ ولذلك قال الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: {وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف:٣٥] فإياك أن تستعجل، واعلم أن كل شيء قُدر لحكمة من الله عز وجل الملك الحق المليك المقتدر سبحانه وتعالى.

فهو عز وجل الذي آتى ((فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)) ثم قال: ((لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ)) ولكي يستجيب أصحاب القلوب الفاسدة كما بين سبحانه وتعالى ذلك في آيات كثيرة ومن ذلك قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام:١١٢ - ١١٣] فتأمل هذه الكنوز القرآنية.

((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا)) فالله الذي جعل، وهو أول ما ينبغي أن تلحظه في هذه الآية فقال: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا)) ولم يقل: كذلك كان لكل نبي، وإنما قال: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا)) فالله هو الذي خلق في قلوبهم ذلك: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ)) وبدأ بشياطين الإنس قبل شياطين الجن؛ لأن خطر شياطين الإنس أشد؛ ولأنهم يضلون الناس أكثر من شياطين الجن.

((يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ)): يشير بعضهم على بعض، ويأمر بعضهم بعضاً، وينصح بعضهم بعضاً بالفساد والكفر والنفاق.

((زُخْرُفَ الْقَوْلِ)) وهو القول المزخرف الذي يحسبه سامعه حقاً وهو باطل، وأكثر الناس ليس عندهم التمييز والقدرة العلمية على معرفة النافع من الضار.

((زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا)) أي: ليغروهم به.

((وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ)) واستحضر هذه جيداً، وهو أن هذا الأمر حدث بمشيئته في قوله: ((وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ)) إذاً: بإذنه تم ذلك، ولحكمته وقع ما أراد سبحانه وتعالى، فهو الذي قدر وجود الأعداء، وكيد الأعداء، وكل ذلك لهوانهم عليه؛ ولذلك قال لنبيه عليه الصلاة والسلام: ((فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ)) وهذا نوع احتقار، أي: لا تعبأ بهم، ولا تقلق، ولا تضطرب منهم، والخطاب في حقيقة الأمر لكل مؤمن؛ ولذلك قال عز وجل: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ} [آل عمران:١٩٦] فهم أهون على الله سبحانه وتعالى من أن يجعل لهم منزلة وقدراً، قال صلى الله عليه وسلم: (لو كانت الدنيا -بأسرها- تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء) ولو أن الدنيا بأسرها كانت تساوي عند الله شيئاً ما مد عمر إبليس بطول عمر الدنيا منذ خلق الله آدم وأمر ملائكته بالسجود وأبى إبليس ذلك، وإبليس مخلوق قبل آدم، وقد طلب ذلك إبليس فأجابه الله له.

انظر لتعرف حقارة وتفاهة هذه الدنيا؛ وذلك لأن الله أعطاها لإبليس اللعين حين سأله إياها؛ لأنها أتفه ما يكون؛ ولذلك استحضر أن ذلك بمشيئته سبحانه وتعالى: ((وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ)) هم يكيدون كيداً والله عز وجل يكيد كيداً {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطارق:١٧].

قال عز وجل: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ} [القلم:٤٤ - ٤٥] أي: يمد لهم عز وجل، لكنهم مربوطون فيما أراد الله عز وجل أن يكونوا فيه، فهم مقيدون بمشيئته {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم:٤٥] لمتانة كيده عز وجل أملى لهم، وفتح عليهم أبواب كل شيء.

قال عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:٤٢ - ٤٥].

قال الله سبحانه وتعالى: ((وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ)) أي: لزخرف القول الغرور ((وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ)) فمن حكمته سبحانه وتعالى أنه جعل قلوباً تميل إلى هذا الباطل، وتقبله، وتحبه، وترضاه، وتعين وتساعد عليه، وتسعى إلى نشره في الأرض، وهو باطل مر قبيح ولكن كثير جداً من النفوس تميل إليه بسبب انعدام الإيمان ((وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ)) أي: لتميل إلى هذا القول المزخرف الغرور الباطل، وهي قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة ((وَلِيَرْضَوْهُ)) أي: وليرضوا بالباطل ((وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ)) أي: ليكتسبوا ما هم مكتسبون، ولتكون نهايتهم وعاقبتهم كما كانت عاقبة من قبلهم؛ لذلك إذا استحضرنا أن الله هو الذي آتى، وأن الله هو الذي قدر أن يوجد من يضل عن سبيله، فستعرف أن الله سبحانه وتعالى يجعل هذا في النهاية مطموساً، ولا يثمر الثمرة التي رجاها أصحابه منه؛ ولذا دعى موسى عليه السلام ربه: أن يطمس على أموال آل فرعون قائلاً: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} [يونس:٨٨ - ٨٩] وبعض أ