نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو المعصوم عليه الصلاة والسلام، وذنوبه إنما هي نسيان أو فتور في الذكر عن القدر المستحب في حقنا، أو إنها خطأ في الاجتهاد أو ترك للأولى، هكذا كانت ذنوبه عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك يقول:(فاغفر لي ما قدمت وما أخرت)، والعبد يشهد تقصيره مقدماً ومؤخراً، يشهد تقصيره في أول عمره وفي آخره، يشهد العبد المؤمن ذنوبه قد أحاطت به من قبل ومن بعد، فيقول: فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، فأنت بين ذنب وبين ذنب، إلا أن يتوب الله عز وجل عليك، وستهلك إلا أن يتوب الله سبحانه وتعالى عليك، فالنبي صلى الله عليه وسلم يشهد أن ذنوبه مقدمة ومؤخرة فيقول:(فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت)، فهو بين سر وعلن، ذنوب بينه وبين الله، وذنوب بينه وبين الناس، بمعنى أنه في السر أذنب وفي العلن أذنب، ثم يقول بعد ذلك:(وما أنت أعلم به مني)، هذا الانكسار العجيب الذي يحصل للمؤمن -إذا صدق في قوله- يرفعه منازل عالية عند الله عز وجل، وليس مجرد ترديد باللسان كمتواضع ليس عنده التواضع، وإنما يقول ذلك وهو يرى أنه ما أذنب في الحقيقة، وأن الأمر كان من غيره، وأن التقصير كان من سواه، وربما لام بعضهم قدر الله وقال: هو الذي قدر علينا ذلك، فعلام اللوم؟! وعلام نعذب أو نعاقب؟! وكثير جداً من الناس يقول: لماذا فعلت بنا يا ربنا هذا؟ ماذا أذنبنا حتى تفعل بنا ذلك؟! نعوذ بالله من هذا القول، وهذا كله لأنهم لم يشهدوا حقيقة العبودية بالانكسار، وأن العبد لا يزال مقصراً في حق ربه عز وجل، وقد قدر الله عز وجل على أبينا آدم الخطيئة، وكتبها عليه، ورزقه الاعتراف بالذنب والاستغفار، فقال هو وزوجه:{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[الأعراف:٢٣]، فقارن بين الحالين: إبليس احتج بالقدر وعاتب ربه عز وجل فقال: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي}[الحجر:٣٩]-نعوذ بالله من ذلك! وحاج ربه عز وجل فقال:{فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}[الأعراف:١٦ - ١٧]، وهذه خطة إبليسية يسير عليها كثير من الناس، ينسبون إلى الله عز وجل أنه ظلمهم، وأنه الذي قدر عليهم، ويستمرون في محادة الرب ومخالفة أمره، فتجد أحدهم يترك الطاعات ويفعل المعاصي والمحرمات وربما الشركيات، وينسى الآخرة، ويقبل على الدنيا، ولا يشكر نعمة الله، تجد هذه طريقة إبليسية يسير عليها كثير من الناس، وإذا عوتب عاتب ربه عز وجل، فمن شابه إبليس فهو معه، (ومن تشبه بقوم فهو منهم)، ومن شابه أباه فما ظلم.
فإذا اعترفت بالذنب، ورأيت التقصير والنقص والعيب الذي عندك، كان ذلك من أسباب رفعتك عند الله عز وجل، وإنما تكمل النفس الإنسانية برؤية تقصيرها وعيبها، وإنما تهلك وتمرض وتموت برؤية كمالها وفخرها وغرورها والعياذ بالله من ذلك! لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يكرر هذا المعنى في مجالسه كلها، وهو معنى الاستغفار الذي هو جالب لأنواع الخيرات والرزق والبركات من الله سبحانه وتعالى، كما قال ابن عمر رضي الله عنه:(كنا لنعد في المجلس الواحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم، أكثر من سبعين مرة)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:(يا أيها الناس! توبوا إلى الله واستغفروه؛ فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة)، ويقول عليه الصلاة والسلام:(اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني)، فأعلم الخلق بالله صلى الله عليه وسلم وقد قال:(والله إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية)، قال ذلك ليعلمنا منزلته الواجبة، والتي يجب علينا أن نعتقدها له عليه الصلاة والسلام، وهو مع ذلك يقول:(اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي)، وكلما كان الإنسان معترفاً بجهله ناظراً إلى سعة علم الله عز وجل كان عالماً بالله كما في قصة الخضر عليه السلام مع موسى صلى الله عليه وسلم -وهو الذي أمره الله أن يصحبه فيتعلم منه، وعلمه ثلاث مسائل في رحلة طويلة- فعندما وقف عصفور على جانب السفينة فأخذ قطرة من البحر الخضر قال:(يا موسى! أنت على علم من علم الله علمكه لا أعلمه، وأنا على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه، وما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلا كما أخذ هذا العصفور من هذا البحر) فهذه النظرة تجعل العبد يكون صادقاً، (اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري).
وعندما تنظر إلى عظمة الله عز وجل وحقه ونعمه، وما يستحقه سبحانه وتعالى من الحب والخوف والرجاء وكمال كل أنواع العبودية، وتعلم ما أنت فيه مقصر عند ذلك تكون صادقاً.
قوله:(وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني)، أي: اغفر لي إسرافي في أمري، فأنا أسرفت على نفسي، وأنا قصرت تقصيراً أنا أعترف به، فهذا الذي يرفع قدر العبد عند الله عز وجل.
(فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر)، الله عز وجل يقدم من شاء، ويؤخر من شاء، هكذا شهد النبي صلى الله عليه وسلم أن الفضل بيد الله، وأنه هو الذي يرفع درجات من يشاء، وأنه سبحانه وتعالى يهب لمن يشاء الطاعات فيجعله مقدماً عنده، ويؤخر من شاء حتى يؤخر في النار والعياذ بالله، الله يقدم من شاء في أمر الدين والدنيا، ويؤخر من شاء في أمر الدين والدنيا.
(أنت إلهي)، وهذا المعنى شمل كل ما سبق في هذا الدعاء العظيم الجامع الذي هو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، وذكر اسم الألوهية مضافاً إلى ضمير المتكلم المفرد (أنت إلهي) لتكميل هذه الخصوصية، فهو يستشعر أنه مع ربه سبحانه وتعالى، ومع إلهه الذي يعبده ويحبه ويخضع له ويذل له، وقد كملت عبوديته بالاعتراف بالذنب بعد كمال الإسلام والإيمان والتوكل والإنابة:(اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، أنت ربنا وإليك المصير، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، أنت إلهي لا إله إلا أنت)، فهناك خصوصية في قضية العبودية، بمعنى أنها سر بينك وبين الله عز وجل فيما تختص به من عبادته مما لا يعرفه الناس.
وتأمل في قوله:(أنت ربنا)، وفي قوله:(أنت إلهي)، لتعلم حاجة العباد جميعاً إلى الله عز وجل، وفقرهم إليه، ولكل عبد مؤمن صادق مع الله نصيب من قوله:(أنت إلهي).