قال:(فانطلق حتى إذا انتصف الطريق أتاه الموت)، أي: ختم الله له بما أراد عز وجل قال: (أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب) أي: من أعوان ملك الموت، فإن ملك الموت له أعوان: ملائكة بيض الوجوه؛ لقبض أرواح المؤمنين، وملائكة سود الوجوه؛ لقبض أرواح الفاجرين والمنافقين والكافرين، قال:(فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: إنه جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله عز وجل) ولم يذكروا عبادة؛ فإنه لم يعمل بعد عبادة من العبادات، وإنما ذكروا حال القلب، فذكروا إقباله بقلبه إلى الله عز وجل، وكان سيره في الحقيقة طلباً للخير ولم يبدأ بعد فعل الخير.
قال صلى الله عليه وسلم:(وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قط) يعني: من العبادة، فإنه لم يعمل شيئاً من العبادات؛ لأنه لم يصل إلى القرية الصالحة قال:(فأرسل الله إليهم ملكاً في صورة آدمي) وهذا فيه تشريف للإنسان؛ فقد علمه الله سبحانه وتعالى كما قال عز وجل:{وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا}[البقرة:٣١]، وفيه تشريف لصورة الآدمي، فهي صورة شرفها الله فلا تهنها أنت بإذلالها لعدوها اللدود وهو الشيطان، وذلك بأن تجعل هذه الصورة المكرمة تنطلق في وجوه المعاصي والفجور، وتذل لذلك العدو اللدود وتجعل هذا الوجه الذي جعل الله فيه المحاسن، وجعل فيه السمع والبصر، وجعل من ورائه العقل الذي يفكر، وجعل فيه اللسان الذي ينطق وسائر الحواس فلا تجعله يتمرغ في الوحل والذنوب بدلاً من أن يخر ساجداً لله عز وجل.
فالله كرمك بهذه الصورة فاعرف تكريم الله لك، فالملك الذي يحكم بين الملائكة يأتي في صورة آدمي وقال تعالى:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}[الإسراء:٧٠]، وهذا تكريم للإنسان فهي صورة خلقها الله عز وجل بيده، وهذا يقتضي منك شكر نعمة الله عز وجل عليك بألا تعبّد هذه النفس لغير خالقها، وأن تصون هذا الوجه عن السجود والمسألة لغير خالقه.
وكان الإمام أحمد يقول: اللهم! كما صنت وجهي عن السجود لغيرك فصنه عن المسألة لغيرك.
قال صلى الله عليه وسلم:(فجعلوه بينهم -أي: حكماً- فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهن كان أقرب فاجعلوه من أهلها).
والحقيقة أن الرجل كان أقرب إلى الأرض السيئة، والقرية الخبيثة، ولكن الله عز وجل لأجل صدق توبته وإقباله عليه حرك الأرضين، فغير سكون الأرض، فالأرض ساكنة لا تتحرك، والأماكن الأصل فيها الثبات، ولكن الله عز وجل غير وجه الأرض من أجل هذا الرجل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(فأوحى الله إلى هذه أن تباعدي، وإلى هذه أن تقاربي، وكان الرجل باذلاً كل وسعه في الوصول إلى الأرض الطيبة، فناء بصدره -أي: مال بصدره-)، وميل الإنسان على جنبه من ظهره تجعل مقدار شبر، فهو عمل والله عز وجل عمل عملاً آخر بالإضافة إلى عمله فقربه سبحانه وتعالى إلى الأرض الطيبة؛ لأنه أراد التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، فجعل هذه القرية الصالحة تتقرب، والقرية الفاسدة تتباعد، وقاسوا المسافة بينهما فوجدوه أقرب إلى الأرض التي أراد بشبر فقبضته ملائكة الرحمة.
نسأل الله عز وجل حسن الخاتمة، ونسأله أن يجعلنا من التائبين، وأن يجعلنا من المتطهرين.