[وسائل الكفار للصد عن سبيل الله]
لقد بين سبحانه وتعالى الوسائل التي يستخدمها الكفار للصد عن سبيله، فقد يجادلون ويناقشون، فإن غُلبوا لجأوا إلى الحرب والبطش، فقال الله تعالى: ((مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا))، وذلك لأنها آيات بينات واضحات، ولكن الكفار لا ينفع معهم حجة، ولا تزجرهم آية، ولا يتعظون بموعظة، فيظلون على الجدال بالباطل، ومهما ظهرت الحجج العقلية والنقلية، والمعجزات الحسية، فهم يأبون الانقياد، ولو كان الحق أوضح من الشمس في رابعة النهار ما استجابوا له، ولو أن الله حشر عليهم كل شيء، وكلمهم الموتى ما كانوا ليؤمنوا؛ لأن الله طبع على قلوبهم، ولولا الخذلان لما وقع ذلك، وما طبع على قلوبهم إلا بسبب من أنفسهم.
((مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا))، وهذه المجادلة المقصود منها أن يمنعوا فائدتها، وأن يفسدوا على الناس الانتفاع بها، وهذه المجادلة تكون بالطعن فيها، أو بالطعن في من يقرأها ويتلوها ويأت بها من الرسل ثم من أتباعهم بعد ذلك، أو بمحاولة تحريفها وتأويلها إذا زعموا الإيمان بها، أو بمحاولة صرف الناس عن حقيقتها أو حقيقة معانيها؛ لكي لا تطبق في الحياة، أو لتكون مجرد أقوال تقال دون أن تكون عملاً وسلوكاً يتغير به حال الناس إلى ما يوافق أمر الله عز وجل وشرعه.
{مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ} [غافر:٤] أي: أنهم يتمكنون مدة من الزمن قدر الله سبحانه وتعالى مدتها، وهو عز وجل الذي جعلهم يتقلبون في البلاد ذهاباً وإياباً، وأمراً ونهياً، وتملكاً وتسلطاً فيما يبدوا للناس، وأكثر الناس يغرهم ذلك، ويقولون: هذا هو الحق؛ لأنها هي القوة، فالحق عندهم مع من كانت القوة في صفه وفي صالحه، ومن كان السلطان عونه، ومن كان الأمر في الناس أمره، فيغترون بذلك ثم يتابعون الباطل، ويشاركون في المنكر؛ لأن صاحبه يتقلب في البلاد، والأنهار تجري من تحته، وله الملك في أنحائها -نسأل الله العافية- وقد حذر الله عباده المؤمنين أن يغتروا بذلك وإن كان الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم.
والمقصود أن هذا التغلب في البلاد هو إلى حين، فله نهاية حتماً، ولابد من أن تشرق الشمس من جديد، وأن يزول تمكن الباطل؛ فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.
والله سبحانه وتعالى حين قدر أن تكون الأيام بين الناس دولاً إنما قدر ذلك ليستخرج من قلوب عباده المؤمنين أنواع العبودية، والمعرفة بأسمائه وصفاته، والتعلق بالله سبحانه، وصدق التوكل عليه، وحسن الظن به، وكمال التفويض إليه، وإلجاء الظهور إليه، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول عندما يأوي إلى فراشه كل ليلة: (اللهم أسلمت نفسي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت).
إن الذي يستشعر أنه يرغب إلى الله ويرهب منه، وأنه قد فوض الأمر إليه، وأنه ليس له ملجأ إلا إلى الله سبحانه وتعالى، فألجأ ظهره إلى الله، وأسلم نفسه لله، وفوض أمره إلى الله، وتوكل على الله؛ فهذا الذي قد أيقن بأسماء الله وصفاته، وأحسن الظن بالله سبحانه وتعالى، وذلك إنما يقع ويكون بالصبر على أنواع من المقدورات التي قد لا يحب الله عز وجل كثيراً منها ولا يرضاها، ولكنه قدرها لما يترتب عليها من أنواع المحبوبات له عز وجل ومن أنواع العبودية، والتعرف للعباد بآثار أسمائه وصفاته، ومن كونهم يتضرعون إليه، فيجيب دعوتهم، ولذلك فلا تظنن أن الظلام هو من صنع أهل الظلام، إنما يستغلون الفرصة، وإنما جعل الليل والنهار، والظلمات والنور خالقُ الكون كله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:١]، فالظلمات قدر الله أن توجد كما قدر وجود الليل، وقدر سبحانه وتعالى أن يطلع النهار بعد ذلك، فكذلك سيظهر نور الحق فلا يغررك إذاً ما تراه من تقلب الذين كفروا، فالذي جعلهم يتقلبون والذي مكن لهم وسلطهم هو الله سبحانه وتعالى.
{وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [يونس:٨٨ - ٨٩]، وقال عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان:٣١]، وقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام:١١٢] {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام:١١٣]، وقال سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام:١٢٣].
فمن أين يأتي الغرور لمن أيقن بذلك كله؟ فالله هو الذي قدر وأعطى ومنع وابتلى عباده المؤمنين، قال الله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:١٥٥ - ١٥٦].