قال ابن كثير رحمه الله: وقال العوفي عن ابن عباس: ((وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ)) أي: بأن يقسم لبعض السرايا ويترك بعضاً.
وهذا وجه آخر في تفسير الآية، وهو عدم العدل في قسمة الغنائم، بأن يعطي البعض ويترك البعض، وهذا -أيضاً- من الخيانة وإن لم يأخذها لنفسه، لكن يخص بعض الناس بما ليس من حقهم ويحرم طائفة أخرى، وهذا من شيم المفسدين في الأرض، أن يخص طائفة من المقربين، كما فعل فرعون عندما قال للسحرة:{نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}[الأعراف:١١٤]، فطائفة المقربين طائفة يباح لها أضعاف أضعاف الأجرة المطلوبة، ولذلك كان ترغيبه للسحرة إذا انتصروا أكبر مما طلبوه من الأجر، قال تعالى:{قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}[الشعراء:٤١ - ٤٢]، فطائفة المقربين تأخذ أضعاف أضعاف الأجور، وهي لا تحتاج إلى أن تعطى أجراً؛ لأنه يباح لها -والعياذ بالله- من أموال الناس وأعراضهم وحقوقهم ما لا يسألون عنه والعياذ بالله، فهم يعرفون جيداً ما عليه المقربون، وما للمقربين من فرعون، ولذلك كان هذا أعظم الترغيب لهم، كما أنه جعل طائفة أخرى مستضعفة مستباحة، كما قال تعالى:{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}[القصص:٤]، وجعل المجتمع شيعاً، فطائفة يباح لها ما لا يباح لغيرها، وتنتهك حرمات طائفة دون أن يسأل أحد عنها، ودون أن يجازى على انتهاك حقوقها، وهذا من الفساد في الأرض.
ولذلك كان هذا من وجوه الخيانة؛ لأن الإمام إنما أعطي السلطات والقوة لأجل أن يقيم العدل في الناس وما شرعه الله سبحانه وتعالى، وألا يميز بين الناس إلا بما ميز الله عز وجل به وخص وفرق من الحق والباطل، فالله عز وجل جعل الذي يفرق بين الناس هو إقامة الحق أو الوقوع في الباطل، فمن أقام الحق أعلى الله شأنه ورفعه، ومن وقع في الباطل وعمل به وضعه الله عز وجل وأذلة وأهانه، وجعل الذلة والصغار على من خالف رسوله صلى الله عليه وسلم، فأما أن يجعل الأمير الناس شيعاً فيقسم المجتمع إلى طبقات وطوائف بحيث تعطى طبقة من الطبقات حقوقاً ويمنع الآخرون فهذا من خيانة الأمانة؛ لأن ما أعطاه الله من القوة والمكانة والأمر النافذ هو أمانة من الأمانات، فإذا وضعها في غير موضعها فأعطى بعض الناس ومنع الآخرين فذلك خيانة وإن لم يأخذ لنفسه، نعوذ بالله من ذلك.
قال العوفي عن ابن عباس:((وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ)) أي: بأن يقسم لبعض السرايا ويترك بعضاً، وكذا قال الضحاك.