[قتل النبي لأبي بن خلف]
[وقال أبو الأسود عن عروة بن الزبير قال: (كان أبي بن خلف أخو بني جمح قد حلف وهو بمكة ليقتلن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بلغت النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحليفة -اليمين- قال: بل أنا أقتله إن شاء الله، فلما كان يوم أحد أقبل أبي في الحديد مقنعاً وهو يقول: لا نجوت إن نجا محمد -صلى الله عليه وسلم- فحمل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد قتله فاستقبله مصعب بن عمير أخو بني عبد الدار يقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، فقتل مصعب بن عمير)].
وهو في الحديد، وليس هناك شيء ظاهر منه، من ذا الذي يقتله، ولكن مصعب ضحى بنفسه وليس عليه إلا نمرة فقط، وليس عنده ثياب، وليس عليه شيء من الحديد، ولما أرادوا تكفينه فإن غُطي بنمرته رأسه ظهرت قدماه، وإن غطيت قدماه ظهر رأسه رضي الله تعالى عنه، فقاتل شخصاً في الحديد وقاية للنبي عليه الصلاة والسلام، مصعب رضي الله عنه هو سفير الإسلام، الذي دخل أهل المدينة الإسلام على يديه رضي الله تعالى عنه، الذي يقول عنه عبد الرحمن بن عوف: قتل مصعب وهو أفضل مني رضي الله تعالى عنهم.
قال: [(فقتل مصعب بن عمير، وأبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ترقوة أبي بن خلف من فرجة بين سابغة الدرع والبيضة)].
يعني: البيضة المغطية على الرأس، والدرع المغطي على الصدر، فهناك بقعة ما بين عظمة الترقوة فقط بقعة من جلد أغلبه من غير عظم.
قال: [(وطعنه فيها بحربته)].
- فالنبي صلى الله عليه وسلم طعن أبي في البقعة الضيقة هذه.
[(فوقع إلى الأرض عن فرسه ولم يخرج من طعنته دم)].
فالمكان ضيق جداً فالأمر لا يزيد عن الخدش.
[(فأتاه أصحابه فاحتملوه وهو يخور خوار الثور -يصيح صياح الثور من شدة الألم وهم رافعون له- فقالوا له: ما أجزعك إنما هو خدش)].
لماذا أنت خائف؟ فالحربة لم تدخل في المسافة ما بين البيضة والدرع! قال: [فذكر لهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بل أنا أقتل أبياً)].
فخوفه كله من أن الرسول قال ذلك، وهو يعلم أنه صادق.
قال: [(والذي نفسي بيده! لو كان هذا الذي بي بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعين)].
معناه: أن السوق الكبير في الحج لو توزع عليهم ضربة النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي لماتوا من الألم، قال الله عز وجل: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:٣٣] أي: إنهم يعرفون صدق النبي صلى الله عليه وسلم؛ لذلك عندما قال: (بل أنا أقتل أبياً) ظل يتذكرها ظاناً أنه سوف يموت.
قال: [(فمات إلى النار) -والعياذ بالله- {فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:١١].
وقد رواه موسى بن عقبة في مغازيه عن الزهري عن سعيد بن المسيب، وذكر محمد بن إسحاق قال: (لما أسند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب أدركه أبي بن خلف وهو يقول: لا نجوت إن نجا، فقال القوم: يا رسول الله! يعطف عليه رجل منا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوه، فلما دنا تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة فقال بعض القوم: -ما ذكر لي- فلما أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم منه انتفض بها انتفاضة تطايرنا عنه تطاير الشعر عن ظهر البعير إذا انتفض)].
أي: هزها الرسول بشدة تركت الصحابة يبتعدوا من شدة النفضة.
قال: [(ثم استقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم فطعنه في عنقه طعنة تدأدأ منها -أي: سقط منها- عن فرسه مراراً) وذكر الواقدي عن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه نحو ذلك.
وقال الواقدي: وكان ابن عمر يقول: مات أبي بن خلف ببطن رابغ].
أي: بينما هو عائد إلى مكة مات بسبب هذا الجرح في الطريق، في رابغ وهو مكان بين مكة والمدينة.
قال ابن عمر: [فإني لأسير ببطن رابغ بعد هوي من الليل، إذا أنا بنار تأجج فهبتها، فإذا رجل يخرج منها في سلسلة يجتذبها يهيج به العطش].
أي: رجل خارج من النار يشد على نفسه بسلسلة ويقول: العطش العطش.
[وإذا رجل يقول: لا تسقه فإن هذا قتيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا أبي بن خلف]- نعوذ بالله- وثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اشتد غضب الله على قوم فعلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو حينئذ يشير إلى رباعيته، - أي: سن النبي صلى الله عليه وسلم التي كسرت- واشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله) وأخرجه البخاري عن ابن عباس قال: (اشتد غضب الله على من قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده في سبيل الله، واشتد غضب الله على قوم دمّوا وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم)].
ومعنى: أدموه ودموه أي: جعلوا الدم يسيل من وجهه عليه الصلاة والسلام، وذلك حين جرحوا وجه النبي صلى الله عليه وسلم.
[وقال محمد بن إسحاق: (أصيبت رباعية رسول الله صلى الله عليه وسلم وشج في وجنته وكلمت شفته)].
كلمت أي: جرحت شفة النبي صلى الله عليه وسلم، وكسرت سنه الرباعية اليمنى السفلى، وجرحت وجنته عليه الصلاة والسلام، وهشمت البيضة فوق رأسه، وهو رسول صلى الله عليه وسلم، والذي فعل به ذلك هم من اشتد غضب الله عليهم.
لنعلم حقيقة التوحيد، وأن الله بيده الأمر كله، ليس للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا لغيره، والنبي صلى الله عليه وسلم كان غاضباً من ذلك، وكان صلى الله عليه وسلم يقاوم المشركين ومع ذلك قدر الله أن يقع ذلك ليكون ما جرى على سيد البشر صلى الله عليه وسلم وسادات الأولياء من بعده من الجرح والألم والقتل من أدلة التوحيد، ولنعلم أن هذا الأمر قدره الله عز وجل ليبتلي عباده المؤمنين، وكذلك ليكونوا أسوة لعباد الله عبر العصور في الصبر والثبات والتضحية والتحمل في سبيل الله عز وجل.