للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[صورة من أسلوب القرآن في قصة يوسف عليه السلام]

سيدنا يوسف من الابتلاء بمكان، حيث قد خلد الله في القرآن ذكره بأسلوب رائع، وذلك أنه بقي في السجن بضع سنين، ومضت المدة، وذكرت في جملة واحدة قال تعالى: {فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف:٤٢].

ولكن نرى لحظات التمكين في هذه القصة ذكرت بتفصيل دقيق من قوله تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ) [يوسف:٤٣] إلى قوله: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:٥٥]، وكلها تفصيل دقيق، بحيث يعيش القارئ فترة من السعادة، فيوسف في السجن والناس يحتاجونه، فلما ذهبوا إلى السجن، وسألوه عن تفسير رؤيا الملك فأجابه يوسف بكل عزة وكرم، وما قال: صفني عند الملك، ولا أعطى له سيرة ذاتية، بل قال لهم ما يحتاجونه، وما قال للسائل: أنت نسيتني عند الملك، فلماذا لم تقل له؟ بل الرجل نفسه يقول له: فسر هذا لعلي أرجع إلى الناس، يعني: يرجع ويتركه في السجن، ولم يقل للملك: أخرجوا يوسف، وإنما قال الرجل: أرسلوني أنا، حتى يأخذ لنفسه مكانة، قال تعالى حاكياً عن الرجل: {أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ} [يوسف:٤٥]، فذهب إليه، وأخذ من يوسف تأويل الرؤيا، ولكن ربنا قدر ذلك؛ لتكون هذه القضايا بمثابة سلالم ومراحل يرتفع بها سيدنا يوسف.

وقد أساءوا إليه أعظم إساءة، وسجنوه سبع سنين أو خمس سنين ظلماً وعدواناً، على ما اتصف به من الطهارة والنقاء، وليس على جريمة ومع ذلك يؤول لهم شيئاً شغلهم، وليس فقط يؤول لهما الرؤيا، بل يحل لهم مشكلة اقتصادية سوف تحصل: {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ} [يوسف:٤٧]، إذاً فلم يخبرهم بالخطب فقط، بل أعطاهم الحل أيضاً: {فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ} [يوسف:٤٧] أي: لا تأكلوا كثيراً، بل كلوا قليلاً واتركوا الباقي في السنابل؛ لأن هذا سينفعكم.

{ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ} [يوسف:٤٨] أي: ادخروا وتحصنوا، ثم زادهم فأخبرهم عن شيء لم يرد في الرؤيا: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ} [يوسف:٤٩] وهذا مما جاءه من الوحي، {وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} [يوسف:٤٩] أي: سوف يأتي لكم فرج بعدها، والإنسان عندما يكون في بلاء ويتوقع فرجاً يكون أهون عليه، لكن لو لم يكن عنده أمل في الفرج ولا يعلم متى تنتهي مشكلته، سيكون في وضع يبقى صعب جداً، ويوسف عليه السلام أخبرهم بأنه سوف يأتي فرج دون أن يطلبوا منه ذلك، فصلى الله وسلم على يوسف، ما أحلمه وما أكرمه! قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كنت مكانه لما أولت لهم الرؤيا -الحديث في معناه- حتى يخرجوه)، أي: حتى أشترط أن يخرجوني من السجن، والحديث فيه إرسال لكن معناه حسن، فانظروا لما كان الأمر فيه نعمة تكلمت عنه الآيات بتفصيل رائع جداً، وكلها ترفع من قدر يوسف عليه السلام.

ثم قال تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} [يوسف:٥٠]، وهذه غير (ائتوني به) التي بعدها، لذا كان بقدرة سيدنا يوسف أن يخرج بشفاعة الخمار وأن يقول له: هناك شخص مسجون فأخرجوه، لكن الشيطان أنسى الفتى أن يذكر يوسف، وكان ذلك في الحقيقة لمصلحة يوسف، لأن خروجه بشفاعة الخمار غير خروجه بشفاعة الملك، ولذا فإن الملك بعدها قال: {ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} [يوسف:٥٤]، فارتفع يوسف أكثر بهذا الكلام، ولكنه مع ذلك يقول: (ارجع إلى ربك)، فأصبح السجن عنده ليس هماً أكبر، بل أكبر من ذلك طلب إثبات براءته، فكأنه يقول: إثبت براءتي قبل أن أخرج من السجن، وكان بإمكانه أن يقول: أخرجوني واعملوا الذي تريدونه، ولذا جاء في الحديث الصحيح: (لو كنت مكانه لأجبت الداعي) أي: داعي الخروج.

قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف:٥٠]، أي: أن ربك لا يعرف شيئاً، لكن ربي ((بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ))، ففي مملكة الملك تحصل أشياء لا يعرفها الملك، ولكن يسأل الملك ويتثبت فتفتضح امرأة العزيز بطريقة عجيبة، فعلاً إنها لحظات مبهجة للنفس، إذ أن الباطل يضمحل: {الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} [يوسف:٥١]، ويأتي الملك بالناس والنسوة كلهن، وكأن يوسف سيدخل تهمة فظيعة: {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف:٥١]، فسأل وعرف قبل أن يواجه الجميع؛ لأنه يقرر حقيقة وهي أنكن راودتن يوسف عن نفسه {قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ} [يوسف:٥١]، سبحان الله! وتنزيه لربنا أن يحصل ذلك من شخص بهذه المثابة، {مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} [يوسف:٥١] وهذه تبرئة عظيمة جداً {قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} [يوسف:٥١] وهذه تبرئة أكبر ليوسف عليه السلام، فهذه امرأة العزيز برأته، والنسوة برأنه، وثبتت براءته عند الملك، ولك أن تتخيل هذه الفضيحة للنسوة، وقد أنزل الله بهن جزاء وفاقاً؛ لأنهن راودن يوسف عن نفسه وكدن به، وهو قد دعا فقال: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ} [يوسف:٣٣]، فافتضحن أمام الملك وأمام أزوجهن، وتخيل زوج كل منهن ماذا سيكون موقفه، ولكنهم هم السبب؛ لأنهم أزوجهن الذين أدخلوا يوسف السجن وليس النساء، فكان ذلك موقفاً مخزياً للباطل ومظهراً للحق، فقارئ هذه الآيات يلاقي شيئاً جميلاً، فيجعله يستريح وهو جالس في أي مكان {قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف:٥١]، يا للذل! إن المرأة نفسها تخجل أن تقول لزوجها مثل هذا الكلام، بل المرأة الحقيقة قد تخجل من هذا الكلام فيما بينها وبين زوجها، فضلاً عن أن تقوله أمام الناس، بل الأدهى أن تقول ذلك عن شخص أجنبي وأمام كل الملأ: {أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف:٥١]، فهذا ذل، وقد قالت من قبل: {وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف:٣٢] فمن الذي صغر هنا؟! إنها هي التي صغرت صغاراً عجيباً.