للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[غنى القلوب باعتمادها على ربها]

قال ابن القيم: فقوله أي الإمام الهروي في الدرجة الأولى وهي غنى القلب: إن سلامته من السبب أي: من الفقر إلى السبب وشهوده، والاعتماد عليه، والركون إليه، والثقة به.

فمثلاً لو أن أحدهم كان عنده رصيد في البنك، فصار مطمئناً لذلك ومعتمداً على ماله الذي في البنك فهل سيكون في نفس الدرجة من الطمأنينة إن لم تتوفر له هذه الأسباب؟ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدوا خماصاً وتروح بطاناً)، فلماذا اختار الطيور؟ فهذا المثال مهم جداً؛ لأن الطيور لا تدخر أبداً بعكس النمل وغيره، لكن الطيور تنام قريرة العين كل ليلة، وليس عندها ثلاجة أو مخزن تخزن فيه شيئاً من الطعام، ومع ذلك تنام مطمئنة تمام الطمأنينة.

تخيل أنت لو أن عندك في البيت ثلاجة فارغة، ولا يوجد لديك مخزون رز أو سكر، فهل تستطيع النوم وأنت مرتاح هكذا، ولا تعلم ماذا في الغد؟ فالطيور ليست مخبئة شيئاً لغدٍ، ومع ذلك فستصحو الصبح، وستسبح الله، وستنطلق إلى الذي يرزقها كل يوم، فالسلامة ليست موضوعاً سهلاً والله على صغرها، فلماذا يبقى المرء أحياناً مطمئناً؟ لأنه ترك لأولاده شيئاً مثل كل واحد يريد أن يطمئن على مستقبل أولاده، ونحن نقول: ليس الادخار حراماً، لكن المشكلة كلها في أننا لا نسلم من الاعتماد على الأسباب حين نأخذ بها؟ فمن كان معتمداً على سبب غناه، واثقاً به، لم يطلق عليه اسم الغني؛ لأنه فقير إلى الوسائط، بل لا يسمى صاحبه غنياً إلا إذا سلم من علة الاعتماد على السبب واعتمد على المسبب استغناء بعد الوقوف على رحمته وحكمته، وبعد مشاهدة أنه الرحمن الرحيم، وتصرفه وحسن تدبيره سبحانه وتعالى، فبذلك يصير صاحبه غنياً بتدبير الله سبحانه، فمن كملت له السلامة من علة الأسباب والمنازعة للحكم بالاستسلام له، والمسالمة أي: بالانقياد لحكمه؛ حصل الغنى لقلبه، فإذا وقف العبد على حسن تدبيره ورحمته وحكمته واستغنى القلب به، لم يتم له الاستغناء بمجرد هذا الوقوف، وإن لم تنضم إليه المسالمة للحكم: وهي الانقياد له، فإن المنازعة للحكم إلى حكم آخر دليل على وجود رعونة الاختيار، يعني: أنك الآن ما فوضت وتركت الأمور لربنا، بل تقول: أنا سأدبر لنفسي! وأختار هذا، ولا اختار هذا، أنا أريد هذه ولا أريد هذه، أريدها كذا ولا أريدها كذا، هذا لا بأس به في الأمور الدنيوية، لكن المفروض في الأمر الشرعي أن تريد ما شرعه ربنا سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه وتعالى: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} [غافر:٤٤ - ٤٥]، فرعونة الاختيار أن الإنسان يختار لنفسه أشياء عميقة جداً، فيتخير من أوامر الله عز وجل ما يوافق هواه، ويقول: هذا الذي يريده ربنا، ويتشكك في دين الله قائلاً: لماذا الله يريد هذه ولا يريد هذه؟ فطالما أنه يتضايق من أمر ربنا وقدره فسيكون الله قد أوجب عليه أن يضيق صدره بالمحرمات والمعاصي، أليس كذلك؟