أما البراء الواجب فهو عداوة الكفار، وهذا يتضمن السعي في إزالة باطلهم، لا السعي في تأسيسه وتقويته ونشره في الناس، ويتضمن منع المسلمين من أن ينال هذا الباطل وهذا الكفر شيئاً منهم، ويتضمن السعي في إزالة عبادة الطواغيت من على وجه الأرض، وذلك واجب على كل مسلم كوجوب الكفر بالطاغوت؛ لأن الكفر بالطاغوت يقتضي بغضه ومعاداة أهله، والسعي في إزالة عبادة الطواغيت كما قال ربعي رضي الله عنه:(إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة).
أما أن يكون راضياً مقراً -وهي درجة دون المحبة والنصرة- بأن يعبد غير الله فذلك دليل على أنه لم يشهد أن لا إله إلا الله بصدق؛ لأنه يشهد أن من عبد غير الله على حق، وكذلك يشهد أن محمداً رسول الله وفي نفس الوقت يشهد لمن كذبه أنه على حق، ويكون ذلك عنده كله سواء، كالمذاهب المختلفة التي توصل إلى المطلوب، وأن الخلاف معهم إنما هو في دائرة النبوة فقط، كما قال قائل يوماً: إن الخلاف مع النصارى ليس في التوحيد وإنما هو في النبوة فقط! أقول: كلا الكلمتين كفر، أي: الذي يقول: إن الخلاف معهم ليس في التوحيد، والذي يقول: إن الله ثالث ثلاثة، هما سواء في الكفر بنص القرآن.
إذاً: ليس معنى البراء الواجب أننا سوف نسفك دماءهم، وأننا ننتهك كل حرمة لهم، بل يمكن أن نحسن عشرتهم، وليس الحل للمشكلة أننا نقر بدينهم من أجل أن نعايشهم؛ بل نعايشهم بما أمر الله عز وجل من غير ظلم ولا عدوان، وبحدود شرع الله سبحانه وتعالى، ولا يعني ذلك أن نقر الباطل، أو أن نقر الكفر والعياذ بالله؛ لأن هذا نقض لشهادة أن لا إله إلا الله، كذلك الذي يقول: إن عبادة غير الله لا بأس بها، فهذا نقض شهادة أن لا إله إلا الله، والذي يقول: إن الخلاف لم يكن إلا في أمر النبوة، ولو سلمنا ذلك فمعنى كلامه أن الذي يكذب النبي صلى الله عليه وسلم يبقى الخلاف معه يسير وسهل، ولا يفسد للود قضية والعياذ بالله، أو أن الخلاف فيه سائغ مثلاً، كما قال رجل منهم يوماً من الأيام: إن المؤمنين في اصطلاح القرآن ليسوا أتباع دين خاص، ولكنهم المؤمنون بالإله الواحد! يعني: أن المكذبين للأنبياء مؤمنون بالإله الواحد، وأن من كذب النبي صلى الله عليه وسلم يقال له: لا بأس، أنت لم تشهد أن محمداً رسول الله؛ لأنك تجوز تكذيبه، نقول لهذا وأمثاله: إن من يكذب الرسول صلى الله عليه وسلم، ويكذب القرآن، وقد قال الله تعالى:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ}[الفتح:٢٩] من كذب ذلك فقد كذب الله، وهل نشهد لمن صدقه بالحق ونشهد لمن كذبه بأنه على حق أيضاً؟ لا يمكن ذلك أبداً، فهذا يكذب قول الله:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ}[آل عمران:١٩].
إذاً: المعاملة بما شرع الله سبحانه وتعالى هذا باب آخر لا بد أن نعلم الفرق بين الأمرين؛ لأن الخلل في ذلك خلل خطير جداً، وهناك من يحتج على حب الكفار بقول الرسول صلى الله عليه وسلم:(ابدءوا بجارنا اليهودي)، نقول: الإحسان إليه ليس دليلاً على الموالاة، مع أن الحديث في سنده نظر، لكن قد قبل النبي صلى الله عليه وسلم الهدية من الكفار، وأجاز الإهداء إليهم، والرسول صلى الله عليه وسلم قد أرسل بعض الهدايا إلى الكفار، وأقر إهداء بعض الصحابة لأقربائهم الكفار، وأمر أسماء أن تصل أمها، وهذا حق لا شك فيه، ولكن فرق بين هذا وبين الرضا والإقرار وترك العداوة، فالعداوة هي: أن تسعى إلى إزالة هذا الباطل، وإذا مكنك الله عز وجل من إهدار الباطل كما أمر الله حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون أذلاء، فهذا هو الواجب الذي لا يجوز غيره.