وكان كثيرَ العناية بالرّدِّ على الناس، فرَدَّ على إمام الحَرَمَيْنِ أبي المعالي النَّيْسابوُريِّ في كتابِه:"الإرشادِ والبُرهان"، وعلى أبي الحُسَين ابن الطَّراوة في مقدِّماتِه على أبوابِ الكتاب، وعلى الأعلَم في "رسالتِه الرَّشِيدّية" وغيرِها، وعلى أبي محمد بن حَزْم في بعض مقالاتِه، وعلى أبي إسحاقَ بن مُلْكُونَ وأبي الوليد بن رُشْد وأبي القاسم السُّهَيْليّ في مسائلَ كثيرة، وعلى أبي جعفر بن مَضَاء، وعلى غيرِهم من أهل عصرِه.
وشَرَحَ "كتابَ سِيبَويْه" وسَمَّاه: "تنقيحَ الألباب في شَرْح غوامضِ الكتاب" و"جُمَلَ الزَّجّاجي"، وله مُصنَّفاتٌ في القراءاتِ مستجادة، وكان وقتَ طلبِ العلم مختصًّا بخدمةِ شيخِه رئيس النُّحاة أبي بكر بن طاهر، فيذكرُ أنه غاب على بعضِ كُتُبِه وهما حينَئذٍ بفاسَ فسُجِنَ من أجل ذلك، ولم يزلِ القاضي أبو محمد بن عُمر أبو القاضي أبي حَفْص يتَلطَّفُ في أمرِه حتّى سُرِّح، وأزال ما حَدَثَ بسببِ ذلك من الوَحْشة بينَه وبينَ شيخِه أبي بكر بن طاهر، وعاد إلى خدمتهِ والقراءةِ عليه كما كان.
وكان أبو الحَسَن، رحمه اللهُ، صَرورةً لم يتزوَّجْ قَطُّ إلى أن توفِّي، وكان يقول: والله ما حلَلْتُ مِئْزَري قطُّ على حَلالٍ ولا حَرام، وكان مشهورًا بالصِّدق وطهارةِ الثَّوب والصِّيانة والعَفاف، متجوِّلًا عُمُرَه على البُلْدان، يُديرُ بضاعةً له كانت في تجارةٍ أكثرُها في إقامة أواني الخَشَب المخروطة، وأكثرَ ما كان يترَدَّدُ بينَ رُنْدةَ وإشبيلِتَةَ وسبْتةَ وفاسَ ومَرَّاكُشَ فمتى حَلَّ ببلدٍ شَرَعَ في إقامة ما يُقيمُ من ذلك إن كان بلدَ إقامة، أو بيعِه إن كان بلدَ بَيعْ ما أقامه بغيِره، وانتَصَبَ لتدريسِ ما كان لدَيْه من المعارفِ رَيْثَما يتمُّ غَرَضُه في البيع والإقامة، ويَستوفي الجُعْلَ على الإقراءِ من الطّلبة، [٩٧ و] ولا يُسامحُ أحدًا في القراءةِ عليه إلا بجُعْل يُرتِّبُه عليه، ثم يرحَلُ، هكذا كان دَأْبُه. وكان وَقُورَ المجلس مَهيبًا. ورَفَعَ إلى الناصِر من بني عبد المُؤمن نُسخةً من "شَرْح كتابِ سيبوَيْه" بخطِّه في أربع مجلَّدات، فأثابَهُ عليه بأربعةِ آلاف درهم من دراهمِهم، وقد رأيتُ هذه النُّسخةَ وأخرى بخطِّه أيضًا.