للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وذَكَرَ لي بعضُ الرَّحّالِينَ أنه رأى بمدرسةِ الفاضل البَيْسانيِّ من القاهرة نُسخةً بخطِّ المصنِّف في مجلَّدٍ واحد، وقد انتَسخَ كثيرًا لنفسِه ولرؤساءِ عصرِه.

وقال شيخُنا أبو الحَسَن الرُّعَيْني (١): كان جامدًا على ما لَقِنَ (٢) عن ابن طاهر، قليلَ التصرُّف بكيءَ العبارة، متسرِّعًا لإنكارِ ما لا يَعرِف. قال: وكانت بينَه وبينَ شيخِنا أبي عليّ الرُّنْديِّ رحمَهما الله مُناقَضاتٌ في مسائلَ من العربيّة أنشَقَه أبو عليٍّ فيها الخَرْدَل، فما قام معَه ولا قَعَد.

وقال لي شيخُنا أبو زكريّا بنُ عَتِيق: كان شديدَ الضَّجَر عند تتبُّع البحثِ معَه والمساءلةِ له، فعَهْدي به مرّاتٍ إذا ضويقَ في المجلس يأخُذُ قُرْقَيْهِ (٣) ويقومُ من مجلسِه دونَ سَلام ولا كلام، ويتَخطَّى ما يقابلُه من الحلقة، ثم يُردُّ وجهَه إلى الطّلبة ويقولُ لهم: ما أراكم عَزَمتُم على إكمال قراءةِ "الكتاب" ما أخَذتُم أنفُسَكم بهذه المآخِذ، أو نحوَ هذا من القول، ثم ينصرف.

وأصابَه قبْلَ موتِه خَدَرٌ واختلاطُ عقل، أدَّى ذلك إلى أن ثَقِفَ القاضي بإشبيلِيَةَ حينَئذٍ أبو محمد بنُ حَوْطِ الله أو أبو حَفْص بن عُمر -وقيل: أبو مح مد عبدُ الحق، ولا يصحُّ- مالَه وحَجَرَ عليه، فقَصَدَه معترِضًا له ومتظاهِرًا بالسّلامة من الاختلال، واستطالَ عليه بلسانِه وأغلَظَ له في القول، فلم يسَعِ القاضيَ إلّا صَرْفُه مبرورًا، والاحتياطُ عليه رَعْيًا لشاختِه، ورحمةً له؛ وشُهرةِ مكانِه قبلُ من العلم والدِّين، قال أبو العبّاس بنُ هارون: رأيتُه في تلك الحال ماشيًا في أزِقّة إشبيلِيَةَ ذاهلًا حافيًا لا يَشعرُ بما هو فيه.


(١) برنامج الرعيني: ٨١.
(٢) في ح: "لقي"، وفي الحاشية: "لعله تلقى أو لقن".
(٣) قُرق -بضم القاف الأولى- لم ترد في اللسان، وهي من استعمال الأندلسيين، وقد أوردها دوزي في قاموس الملابس وقال: إنها تشبه ما نسميه "الصندل"، وذكرها في ملحق المعاجم ونقل من رياض النفوس: "فجلس في الموضع الذي تلقى فيه النعال والأقراق"، قلنا: والقَرّاق: صانعها، يرد في بعض التراجم الأندلسية والمغربية.

<<  <  ج: ص:  >  >>