وكان حافظًا للقرآنِ العظيم منسُوبًا إلى تجويدِه وإتقانِ أدائه، ذا حَظٍّ من التفسير وروايةِ الحديثِ واشتغالٍ برواييه وتشبُّع بمعرفةِ الرُّواة، ومُشارَكةٍ في العربيّة وقَرْض الشِّعر، أكتَبَ بحِصن القَصْر من نَظَر إشبيلِيةَ مُدّةً، وفي الإكتابِ أذهَبَ مُعظَمَ عُمُرِه بالأندَلُس، ثُم فَصَلَ عنها وأكتَبَ القرآنَ بقريةٍ خاملة من قُرى شَرِيش تُدعَى بَوْنِينَهْ -بباءٍ بواحدة معقودة مفتوحة وواو ساكنة ونونَيْنِ أُولاهما مكسورةٌ وأُخراهُما مفتوحة وبينَهما ياءٌ مسفولة وهاءِ سَكْت- وهي مجُاوِرةُ كرَنانَه: إحدى مشاهيرِ قُرى شَرِيش، وفَصَلَ عنها إلى سَبْتةَ ثُم إلى بِجَايةَ بعدَ الأربعين، فذُكِرَ هنالك بجَوْدةٍ وخَيْر وفَضْل ودِين، فقُدِّم إلى الإمامة والخُطبة بجامعِها، ثُم استُدعيَ مُنَوَّهًا في حدود أربعةٍ وخمسينَ وست مئة إلى تونُس وقُدِّم للخُطبة بجامعِها الجديدِ والصّلاة به، وتصَدَّى لإسماع الحديثِ وغيره متظاهرًا بسَعة الرِّواية والإكثارِ عن الشّيوخ، حسْبَما تقَدَّمتِ الإشارةُ إليه في سَرْدِ شيوخِه، فأنكَرَ كثير من الناس عليه ذلك، ونَسَبوه إلى ادّعاءِ ما لم يَرْوِه ولقاءِ من لم يَلْقَه على الوَجْه الذي زَعَمَه.
وعلى الجُملة، فكان قاصِرًا عمّا تعاطاهُ من ذلك شديدَ التجاسُرِ عليه متأيِّدًا بما نالَهُ منَ الجاهِ والحُظْوة عندَ الأمير بتونُسَ الَّذي وَلّاه الخُطبةَ والإمامةَ بجامعِه، والحقُّ وراء ذلك.
وقد وقَفْتُ على جوابه بخطِّه لمَن سألَه عن موضع سَلَفِه بالأندَلُس، وسببِ حلولِهم بإشبيلِيَةَ، أَعادها اللهُ للإسلام، رأيتُ إثباتَه هنا، وإن كان فيه بعضُ طُول؛ لتَعلَمَ منهُ بعضَ أحوالِه، ونصُّه:
"أمّا أصلُنا فمن مَنْبجِ الشام وخَرَجَ سَلَفُنا غَزاةً في طالعةِ بَلْج، واستَوطَنوا أبّذَة جَيّان، ويقالُ: إنّها شبيهةٌ ببلدِهم في خِصبِها واتّساع خَيْرِها، كذا رأيتُهم وسَمِعتُهم يتلفَّظونَ بها، بالذالِ المعجَمة، وفي أخبارِها ما يدُلُّ على أنّ العرَبَ إذْ ذاك تكلَّموا فيها بالدّال المهمَلة، يقالُ: إنّ بَلْجًا مَرَّ بها أو غيرُه فشَبَّهها بمَنْبِج، فقال: ما اسمُ هذه البلدة؟ قالوا: أُبَّدَة، قال: أَبَّدُوها على يَعمُر، فنزَلتْها يَعْمُرُ وبَقُوا