وكان فقيهًا حافظًا، نَحْويًّا بارعًا، خَطيبًا مُفوَّهًا بليغًا، وكان أوّلَ طلبِه مائلًا إلى العربية راغبًا في الاقتصارِ عليها والتدريس لها, ولمّا رأى شيخُه أبو عبد الله مالكُ ابن وُهَيْب نفوذَه وإدراكَه وتحقّقَه بالنَّحو رَغَّبَهُ في الإكباب على العلوم الشَّرعية، وكذلك حَرَّضَه عليها أبو الوليد ابنُ رُشْد، فأقبَلَ على دَرْس فروع المذهبِ المالكيِّ، واشتَدَّت عنايتُه به حتى اتَّسعَ حِفظُه، وتُحُدِّثَ عنه بأشياءَ غريبةٍ في ذلك.
وقال فيه أبو القاسم ابنُ المَلْجوم -وقد ذكَرَه في شيوخه-: حافظُ أهل المغربِ غيرَ مُدافَع، بحرٌ يَغرِفُ من محيط. وكان الحاجُّ أبو بكر بنُ عليّ يقول: هو أحفَظُ منَ ابن القاسم صاحبِ مالك؛ وقال أبو محمد طلحةُ: سألتُ أبي عنه فقال: هو البَحْر.
وقُدِّم للشُّورى والفُتْيا معَ أبي بكرٍ ابن العَرَبيّ ونُظَرائه بإشبيلِيَةَ، وأبو القاسم بن وَرْد قاضٍ بها، سنةَ إحدى وعشرينَ وخمس مئة. ولم يُعْنَ بالتأليف على استبحارِ حِفظِه واضطلاعِه بالتحقُّق، والإشرافِ على الرَّقائق والخِلاف، ما خلا كتابًا مختصَرًا في الزّكاة أملاهُ في صِغَرِه (١).
ويُذكَرُ من حفظِهِ: أنه ما طالعَ شيئًا فما إلا حَفِظَه، ولا حَفِظَ شيئًا فنَسِيَه، وقال أبو الحُسَين بن زَرْقُون: ذكَرْتُ يومًا بمحضَرِه مسألةً من الفقه فقال لي: أين رأيتَها؟ فقلت: في كتاب "عُيون الأدلّة" لإبن القَصّار، تنقيح أبي محمدٍ عبد الوهّاب، فقال: ما رأيتُه قَطُّ، سُقْهُ إليّ حتى أراه، فحمَلتُه إليه ومَكَثَ عندَه ليلةً أو ليلتَيْن، ثم صَرَفَه إليّ، وبقِيَ بقيّةَ عُمرِه إذا أورَدَ المسائلَ وذكَرَ الأقوالَ ونَسَبَها على عادتِه يرُدُّ رأسَه إليّ متى حضَرتُ، ويقول لي: وقال صاحبُ كتابِك، هكذا في كلِّ الأحيان ما أُنسِي شيئًا منهُ بعدُ.
وكان معَ اتّساع حِفظِه للفروع، وحضورِ ذكْرِه لها، واقتدارِه على جميع مُفترِقاتِ الأقوالِ في المسائل، وبَصَرِه بالفَتْوى في مُعضِلاتِ النّوازل، ذاكرًا للآدابِ