للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

واللُّغاتِ والأنساب، تأريخيًّا حاضرَ الذِّكْر معَ الكَبْرة، متوقِّدَ الخاطِر سديدَ النظَر حارَّ التندير، عارفًا بأخبارِ أهل الأندَلُسِ عمومًا وبأخبارِ أهل بلدِه خصوصًا؛ وشاهَدَ عجائبَ من حوادثِ الدّولة اللَّمْتُونيّة وأحوالِها، فكان يَأثُرُها ويُجيدُ مَساقَها، وكان خَطيبًا عند ملوكِ عصرِه من اللَّمْتُونيِّينَ والمُؤْمنيِّين، وإن كان قد نالَتْه مِحنةٌ في كائنةِ لَبْلة، فقيِّد وسُجن ثم سُرِّح، وعرَفَه أبو يعقوبَ بنُ عبد المُؤْمن أيامَ إمارتِه بإشبيلِيَةَ، فكان يَبَرُّه ويُكرمُه وَيعرِفُ حقَّه ويؤْثرُه على غيره من طلبةِ مجلسِهِ، ثم استدعاهُ إلى مَرّاكُشَ لمّا صار الأمرُ إليه، فحَظِيَ عندَه وعَظُمَ جاهُه وأثْرى واتّسعت أحوالُه، وكان يُصغي إلى حديثِه ويَستحسنُ كلامَه وَيستطرفُ ما يأتي به في جميع ما يَشفَعُ فيه من أمورِ أهل بلدِه وسواهم، واستمرَّت كذلك حالُه عندَه في ترقِّي الرُّتبة ونَماءِ الحُظْوة إلى أن توفِّي أبو يعقوبَ وخَلَفَه ابنُه المنصُور، فزادت حُظْوتُه لديه وإحسانُه إليه وإجلالُه إياه.

وهَمَّ المنصورُ وهُو بإشبيلِيَةَ بانتزاع الأملاكِ التي بأيدي أهلِها بإقطاع أبيه وجَدِّه إيّاها لهم، وتقَدَّم إليهم في إحضارِ الصُّكوك التي تَسوَّغُوها بها، فاشتَدَّ قلقُهم لذلك، واستَشْعَروا خَلَلَ أحوالِهم؛ إذْ كانوا كلُّهم أو أكثرُهم قد عُنيَ بما صار إليه منها، فشَيَّدوا المبانيَ وأحكموا الغِراسات، ومنهم من صارت لهُ إرثًا عن بعض سَلَفِه، فقَصَدوا الحافظَ أبا بكرٍ ابنَ الجَدّ ورَغِبوا منه النظَر في دَفْع هذه النازِلة عنهم، فأشار عليهم بإحضارِ مَناشيرِهم بذلك، وجَمْعِها عندَه، والتفويضِ إليه في أمرِها، فبعضُهم وثقَ برأيِه وعمِل على إشارته، وبعضُهم توقَّف ولم يثقْ بباطن الحافظ، ثم أجمَعوا على التّسليم إليه فيما رآه، ودَفَعوا إليه صُكوكَهم -وكانت كثيرةً- فحَمَلَها من الغدِ إلى مجلس المنصُور للنّظَر في ذلك، فاستَدعى المنصُورُ تلك المكتوباتِ يتصفَّحُها أو تُتصفَّحُ بين يدَيْه، فوَضَعَها الحافظُ أمامَه، ثم قال المنصورُ مُستفهِمًا ابنَ الجَدّ والحاضِرينَ من أهل العلم: هل يجوزُ للإمام نَقْضُ حُكم مَن تقَدَّمَه من الأئمّة؟ فتوقَّف الفقهاءُ عنِ الجواب قليلاً، فأشار على الحافظ بالإجابة، فقال له: ذلك جائزٌ

<<  <  ج: ص:  >  >>