للإمام إذا سجَّل على نفسِه بتجويرِ من تقَدَّمه فيما فَعَلَه، فكفَّ المنصورُ عن النَّظرِ في ذلك، وأمَرَ بصَرْفِ تلك الظّهائرِ إلى أربابِها، وتمكينِهم من أملاكِهم، فدَفَعَ الحافظُ إلى كلِّ واحدٍ منهم ما كان هو قد دَفَعَ إليه منها.
ولمّا أخرَجَ المنصورُ -سنةَ إحدى وثمانينَ وخمس مئة- دينارَهُ الكبيرَ المنسُوبَ إليه، البخاري عليه اسمُ "اليعقوبيِّ" إلى الآنَ، وحضَرَ الحافظُ عندَه بعضَ مجالسِه بقصرِ مَرّاكُش، فلمّا انصَرفَ أتْبَعَه بعضَ فِتيانِه بقِرطاسٍ فيه مئتا دينارٍ منها، وقال للفتى: قل للحافظ: هذا من البركةِ التي خرَجَت في هذا الوقت، وقد أرَدْنا أن تكونَ أولَ موصُول بشيءٍ منها، فلمّا صارَ القِرطاسُ بيدِه أخَذَ طَرَفَ إحرامِه الذي كان عليه، وأفرَغَ القِرطاسَ فيه وصَرَفَه على الفتى وقال له: اردُدْه على سيِّدِنا وقيل لهُ: إنّ فلانًا -يعني نفْسَه- مبالِغٌ في شُكرِ إحسانِكم، وقد صَرَفَ هذا القِرطاسَ لِما اشتُهِر عند الناس وعلى ألسنةِ العامّةِ والخاصّة من قولِهم:"إمساكُ الظُّروف يقطع المعروف"(١)، فلمّا أنْهَى الفتى القِرطاسَ ومقالةَ الحافظ إلى المنصور تَبسَّم، واستَطْرَفَ ما صَدَرَ عنهُ في ذلك، وملأَ القِرطاسَ بمئتَيْ دينارٍ أُخْريَيْنِ، وأمَرَ الفتى أن يَلحقَه بالقِرطاسِ ويقولَ له: أمسِكْهُ، ولا يَليقُ بنا أن نَقطعَ معروفَنا عنك؛ وقد كان الحافظُ تباطَأَ في مَشْيِهِ ارتقابًا لِما يكونُ من المنصور على أثَرِ إلقاءِ الفتى إليه كلامَ الحافظ، فلَحِقَه الفتى وهُو لم ينفصلْ عن القَصْر، فدَفَعَ إليه القِرْطاسَ الثانيَ، وأبلَغَه مقالةَ المنصُور، فسُرَّ بها وشَكَرَ عليها وأخَذَ القِرطاسَ منه انصَرفَ. ولم يزَلْ جَليلَ المكانةِ عند المنصُور، كبيرَ القَدْر مسموعَ القول مقبولَ الشَّفاعة، إلى أن توفِّي بإشبيلِيَةَ ليلةَ الخميس رابعةَ عشْرةَ شوّالِ ستٍّ وثمانينَ وخمس مئة، ومولدُه بلَبْلةَ في ربيعٍ الأوّل سنةَ ستٍّ وتسعينَ وأربع مئة.
(١) ينظر هذا المثل في كتاب الدكتور محمد بن شريفة: أمثال العوام في الأندلس ٢/ ١٧٢، وأورده الزجالي بلفظ: حبس الظروف يقطع المعروف.