للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[وبَلَغَ ابنَ مَرْوانَ] ما جَرى في المجلس، وما كان منَ ابن إبراهيمَ في شأنِه، فلِقيَه وأخَذَ في شكرِه [والثناءِ عليه] والاعتذارِ له ممّا سَلَف، فقال له ابنُ إبراهيم: خَلِّ عن هذا، فالذي بينَنا على [ما كان عليه، وإنّما فعلتُ ما فعلتُه] إبقاءً على الصِّنف وصَوْنًا له ورَعْيًا لحقّه وسترًا عليه. ثم إنّ المنصورَ نكَبَه بعدُ؛ لأنه كان يؤكِّدُ عليه أبدًا في الوُصاةِ بتفقُّدِ السّجون والنظرِ لمن فيها من المسجونينَ وتعاهُدِهم بما يُخرجُه لهم من الصَّدَقات، فكان كلّما سأله عن شيءٍ من ذلك أجابَه بأنه شديدُ العنايةِ به كثيرُ التهمُّم بأحوالِهم؛ فلمّا كان في بعض الأسحار سَمِعَ ضَجّةً عظيمة، فسأل عنها، فأُخبِر أنه صياحُ المسجونينَ واستغاثتُهم، فأرسَلَ من وَبثِقَ به في التطلُّع على أحوالِهم، فلمّا دخَلَ عليهم وسألهَم عن حالِهم أخبَروه بأنّهم في جَهْدٍ شديد، وأنّهم قد هَلَكوا جُوعًا وبردًا، ورغِبوا إليه في إيصال رَغَباتِهم إلى المنصُور وتطارُحِهم عليه في المُنّة عليهم بقتلِهم ليستريحوا من عظيم ما هم فيه من سُوءِ الحال وشدّة النَّكال، فأوصَلَ شِكايتَهم إلى المنصُور، فعَظُمَ ذلك عليه وأمر لهم بما يُصلحُ أحوالَهم (١)، وأمَرَ بسِجن القاضي في منزلِه فأقام به مسخوطًا عليه شهرًا أو نحوَه، ثم عَطَفَ عليه وأعاده إلى موضعِه من مجلسِه وصَرَفَه عن القضاء، وذلك بإشبيلِيَةَ سنةَ ثِنتَيْنِ وتسعينَ وخمسِ مئة. وقَدّم لخُطّةِ القضاء أَبا القاسم بن بَقِيّ، فبقِيَ قاضيًا إلى أن توفِّي المنصور، وكان من عهدِه لابنِه الناصِر إقرارُ ابن بَقيّ على القضاء طولَ حياتِه، فخالَفَ الناصِرُ في ذلك عهدَ أَبيه، فحين صارَ إليه الأمرُ صَرَفَ ابنَ بقِيّ في جُمادى الأولى سنةَ ستٍّ وتسعينَ، وأعاد إلى القضاء حينَئذٍ ابنَ مروان، فاشتدَّ إنكارُ ذلك على الناصِر، واستمرّ ابنُ مروانَ ناهضًا بأعباءِ الخُطّة، شديدَ الهَيْبة بصيرًا بالأحكام شديدَ النظرِ في الفَصْل بين الخُصوم إلى أنْ توفِّي ليلةَ الأحد تاسعةِ [جُمادى الأولى من سنة إحدى] وست مئة،


(١) هذا نص واضح الفائدة قوي الدلالة في عناية ملوك المغرب قديمًا بأحوال السجون والمسجونين.

<<  <  ج: ص:  >  >>