للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أيامَ المُعتضِد بالله أبي الحَسَن عليِّ ابن المأمونِ أبي العلى إدريسَ بن المنصُور أبي يوسُف، وكان قد شَرَعَ آخرَ عُمرِه في تأليفِ كتاب في منتقَى الأشعار على فنونِ الشِّعر سَمّاه "رَوْضَ الأديب والمَنْزَهَ العجيب" ضاهَى به "صَفْوةَ الأدب ونُخبة ديوانِ العرب" لأبي العبّاس ابن عبد السّلام الجُرَاوي، فَرَغَ منه نحوَ الثُّلث وعَجَزَ للكَبْرة عن إتمامِه، ويتَجزَّأُ كتابُ الجُرَاويِّ ممّا تحصَّل منه بمقدارِ الربع، أنشَدَني منه كثيرًا وكذلك أنشَدَني من شعرِه ما لا أُحصيه كثرةً، وشاهدتُ منَ ارتجالِه إيّاه وسُرعة بديهتِه ما [لا] أقْضي أبدًا منه العَجَب، وسَمِعتُه يقولُ غيرَ مرّة: لو شئتُ أنْ لا أتكلَّم في حاجةٍ تَعرِضُ لي معَ أحد وأحاورَه إلّا بكلام منظوم لَفعلتُ غيرَ متكلِّف ذلك، ومن إنشاءاتِه بدائعُ نَظَمَها في صِباه وهُو لم يُكمِل العشرينَ من عُمرِه، أغرَبَ بكُبْراها المقسومة بثلاثةٍ وعشرينَ مربَّعًا عَرْضًا وثمانية وعشرينَ طُولًا اشتملَتْ على نَظْم ونثر وموشَّحة وزَجَل، وخاطَبَ بها صديقَه أبا بكر بن مُفَضَّل بن مَهِيب (١)، وله خَواتمُ بديعةٌ، وكلُّ ذلك ممّا أجاد فيه.

وقَدِمَ مَرّاكُشَ في أيام الناصِر أبي عبد الله بن المنصُور أبي يوسُفَ أو قبلَه وانقَطعَ إلى أبي عبد الله بن عبد العزيز بن عَيّاش واختَصَّ به، فكان في كنَفِه إلى أنْ فَصَلَ عن مَرّاكُش إلى الأندَلُس ثم عاد إليها معَ وَفْد أهل إشبيلِيَةَ على المُعتضِد بالله أبي الحَسَن المذكورِ آنفًا، وذلك سنةَ أربعينَ وست مئة، وقام بين يدَيْه بقصيدةٍ فريدة وخُطبة بارِعة وأتبَعَهما بقصيدةٍ أخرى وخُطبةٍ بديعتَيْن، فالأُوْلَيانِ في التهنئة بصَيْرورةِ الأمر إليه بعدَ الرَّشيد، والثانيتانِ في تهنئتِه بعيدٍ وبغيرِ ذلك، ومن الأُولى: قولُه [البسيط]:

الحمدُ لله بُشرى بعدَها بِشَرُ ... خليفةٌ ملكٌ (٢) يُهدَى به البَشَرُ


(١) هو أبو بكر محمد بن مفضل بن حسن بن عبد الرحمن بن محمد بن مهيب اللخمي، مترجم في التكملة الأبارية (١٧٠١).
(٢) في ق: "بشر".

<<  <  ج: ص:  >  >>