وإذا ظمِئَتِ العقول، وضَنَّ بما لديه المعقول، وصارتِ الأذهانُ إلى حيثُ لا تتَصَوَّر والألسنةُ بحيثُ لا تقول، ورَدتُم مَعِينًا، ووجَدتُم مُعينًا، وافتَضَضْتُموها كأمثال اللُّؤلؤِ المكنون حُورًا عِينًا. أظننتُم أنّ عينَ الدَّهر تنام، أم رُمتُم أن يكونَ صَرْحًا إلى إلهِ موسى ذلك السَّنام؟ لَشَدَّ ما شِدتُم البناء، وألزَمتُم اتّباع الأبناءِ الكرام الآباء، حتّى غرِقَ الأوّلُ في الآخِر، وصار السَّلَفُ [٣٦ ب] على ضخامتِه أقلَّ المفاخِر، ومَن عَلَتْ في عُلوِّها قَدَمُ ترَقِّيه، ولم يُطِفْ بكمالِه عَيْبًا يحفَظُه مِن عين العائن ويَقيه، فكثيرًا ما يأتيه محذورُه من جهةِ توَقِّيه، هذا أبوكم - رضيَ اللهُ عنه - حين استكمَلَ تعَرُّفَ الضارِّ والشافي، وتعذَّرت صِفاتُ كمالِه على الحرفِ النافي، ورأى منكم حَفَظةً لوجودِه إنْ أدرَكَه التَّلَفُ ففيكم التلافي، صار وأنتُم كالرَّسْم البَلْقَع وثلاثِ الأثافي، فإنّا لله لفظةً أُواليها، وأُتبعُها زَفْرةً تَلِيها. لقد بَحَثَتِ الأيامُ عن حَتْفِها بظَلْفِها، وسعَتْ على قَدَمِها إلى رَغْم أَنفِها، حين أتلَفتِ الواحدَ يَزِنُ مئةَ ألْفِها، فمَن لِبَثِّ الوَصل ورَعْي الوسائل، وإلى مَن يُلجَأُ في مُشكلاتِ المسائل، ومنِ المجيبُ إذا لم يكنِ المسؤولُ بأعلمَ من السائل؟ اللهمَّ صبِّرْنا على فَقْد الأُنْسِ بالعلم، وأدِلْنا من خُفُوفِ الوَلَه بوَقارِ الحِلم، وأخلِفْه في بَنِيه، وعامّةِ أهليه بشَبيه، ما أوْلَيْتَه في جِوارِك المقدَّس وتُوْليه. وإليكم أيُّها الإخوةُ الأولياء، والعِلْيةُ الذَين عليهم قُصِرَتِ العَلْياء، أعتذرُ من إيجادِ الشيء من الكلام تَنقُصُهُ الأشياء، فقد خانَ في هذا الزّمن حتى اللِّسان، وفُقِدَ حتّى منهُ "الإحسان" وليس لتأبينِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - إلا حَسَّان، فالعُذرُ مُنفسِحُ المجال، وإلى التقصر في حقِّ رُزْئكمُ الكبير مَصيرُ ذي الرَّوِيّة والارتجال، ولذلك عدَلْتُ إلى الإيجاز، واعتَقدتُ إرسالَ القول في هذا الموضِع ضَرْبًا من المجاز، ومُبْلِغُ النفس عُذْرَها معَ العَجْزِ كالصائرِ إلى الإعجاز.
وأمّا حُسنُ العزاء، على تعاقُب هذه الأرزاء، فأمرٌ لا أهَبُه بل أستَجْديه، ولا أُذكِرُكم به ونفْسُ صَبْرِكم متوغِّلةٌ فيه، فسِواكم يُلْهَمُ إلى الإرشاد، ويُذكَّرُ بطُرُقِ الرَّشاد، جعَلَ اللهُ منكم لآبائكم خَلَفًا، وأبقَى منكم لأبنائكم سَلَفًا, ولا أراكُم الوجودَ بعدَها تَلَفًا، بمَنّ الله وكرَمِه، والسّلام.