للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأستريحُ إليه مُفكِرًا، وأبُثُّه باعثًا على الأشجانِ مُذْكِرًا, ولا أقولُ: كفَّى، وقد ذَهَبَ الواحدُ أرى به ألفًا, ولا صَبْرًا، وقد أُسكِنَ العالِمُ قبرًا، بل أُعرِي الأجفانَ من مائها، وأستوهِبُ الأشجانَ غَمْرةَ غَمائها، وأستَدعي الأحزانَ بالشّهيرِ من أسمائها، ثم أتهالكُ تهالُكَ [٣٦ أ] المجنون، وأستَجيرُ من الحياةِ برَيْب المَنُون، وأُنافرُ السُّلوَّ مُنافَرةَ اليقين لوَساوسِ الظُّنون. ولا عَتْبَ، فإذا خامَرَ الَوالهَ جَزَعُه، فإلى نُصرةِ المدامع فزَعُه، وإذا ضَعُفَ احتمالُه، فإلى غَمْرة الإغماءِ مآله، ومَن قال: الصبرُ أوْلَى، ولَّيْتُهُ من ذلك ما توَلَّى، أمّا أنا فأستَعيذُ من هذا المقام وأستعفيه، وأُنزِّه نفْسَ الوفاءِ عن الحلولِ فيه، فإنه متى بَقِيَ للصَّبر مكان، ففي محلِّ الحُزْن لِقبولِ ما يقاومُه إمكان، وقد خان الإخاءَ وجَهِل الوفاء، مَن رامَ قلبُه السُّلُوَّ أو أَلِفَتْ عينُهُ الإغفاء؛ هُو الخَطْبُ الذي نفَى الهُجود، وألزَمَ أعيُنَ الثَّقَلَيْنِ أن تَجُود، وبه أعظَمَ الدّهرُ المُصاب، وفيه أخطأ سَهْمُ المَنيّة حين أصاب، فحقُّنا أن نتجاوزَ القلوبَ إلى الجيوب، وننقلبَ إذا غالَبَنا الحُزنُ بصَفْقةِ المغلوب، وإذا كان الدّهرُ السالِب فلا غَضاضةَ على المستريح لأنَّةِ المسلوب، أستغفرُ الله! فقد أتذكَّرُ من مفقودِنا رضيَ اللهُ عنه حِكَمَه، وأشاهدُ بعَيْن البصيرة شِيَمَه، فأجِدُهما يَكُفّانِ من واكفِ الدّمع دِيَمَه، ويقولان: الولَهُ عندَ مُماسّةِ المصابِ، ومُزاحمةِ الأوصاب، أمر إن وقَع، فقد ضَرَّ فوقَ ما نفَع، فإنه لا أَلمُ الحُزنِ شفاه، ولا حقُّ المصيبة وفّاه، ولا الذاهبُ الفائتُ استرجَعَه وتَلافاه، فربّما جَنَحْتُ إلى الصبرِ لا رغبةً فيه بل إنابةً لمقصدي رَحمَةَ الله وتشفيعًا لوصاياي فيه، فأستَرْوِحُ رائحةَ السُّلوّ، وأنحَطُّ قابَ قوس أو أدنى عن سِدر ذلك العُلُوّ، وأقفُ بمقام الدَّهَش بينَ معنى الحُزنِ المُستحكِم ولفظِ العزاءِ المَتْلُوّ، فأبكي بُكاءَ النِّساء، وأصبرُ صبرَ الرُّؤساء، وأجدُ رَزايا الفُضَلاء، تفَضُلُ رَزايا الأخِسّاء، مُوازنةً بين هذا الوجود، وبُخْلٍ يتعاقَبُ على محَلِّ الجُود، فالدّهرُ يَسترجعُ ما وَهَب، كان الصُّفرَ أو الذهبَ، وإذا تحقَّق عدمُ ثَباتِه، وعُلِم استرجاعُه لجميع هِباتِه، صار المتعرِّضُ لكثيرِه، محَلًّا لتأثره، فلا غَرْوَ أنْ دهَمَكم الرُّزءِ، يَؤودُ الفَلَكَ الدائرَ منه الجُزء، فطالما بِتُّم تُرضعُكمُ الحِكمةُ أخلافَها، وتَهَبُكم الخلافةُ آلافَها، وتؤمِنُكم الأيامُ خِلافَها،

<<  <  ج: ص:  >  >>