للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الذَّنْب، والصاحبِ بالجَنْب، وتقديم ابنِ السّبيل، على ذي الرَّحِم والقَبِيل، وإيثارِ الغريب، على القريب، والتوسُّع في الأخلاق، حتى لمَن ليس له مِن خَلَاق، إلى غير ذلك مما عِلْمُ قاضي الجماعة أحصاه، واستعمَلَ خُلُقَه الفاضلَ أدناهُ وأقصاه، لَجَعلوا خُمولَهم مأمولَهم، وأضرَبوا عن ظهورِهم، فنَبَذوه وراءَ ظهورِهم، اللهمَّ إلا من أُوتيَ بَسْطةً في العلم، ورَسَا طَوْدًا في ساحة الحِلم، وتساوَى ميزانُه في الحَرْب والسِّلم، وكان كقاضي الجماعة في المُماثَلة بين أجناسِ الناس، فقُصاراهُ أن يتقلَّدَ الأحكامَ للأجْر، لا للتعنيفِ والزَّجْر، ويتَولّاها للثّواب، لا للغِلظةِ في ردِّ الجواب، ويأخُذَها لحُسن الجزاء، لا لقُبح الاستهزاء، ويَلتزمَها لجَزيل الذُّخْر، لا للإزراءِ والسُّخْر، فإذا كان ذاك كذلك، وسَلَكَ المتولِّي هذه المسالك، وكان مثلَ قاضي الجماعة ولا مثلَ له، ونفَعَ الحقُّ به عللَه، ونقَعَ غللَه، فيومئذٍ تُهَنَّى به خُطَّةُ القضاء، وتُعرَفُ بما لله عليه من اليدِ البيضاء (١)، فأنهَضَ اللهُ قاضيَ الجماعة بما قلَّده، وأيَّدَ على احتمالِ صُداع المتحاكمينَ جَلَدَه، وإلى ذلكُم أدام اللهُ مُدّةَ عِمادي الأكرم، ومَلاذي الذي أنفُخُ من حدِّه في ضرَم، وأحُلُّ من الاختصاص به محلَّ الحَرَم، فقبلَ هذه الأُمّة، كنتُ تحت تلك الذِّمّة، وكنتُ في حَرْبِ حنين فنصرْتَني نَصْرَ الصمّة، ولِم تتمنَّ ما تمَنّاه يومَئذٍ دُرَيْدُ بنُ الصِّمّة (٢)، نهضْتَ بي وكلُّ مُقدَّم قد تحَيَّر، وصَفوتَ وكلُّ ممسوح بجناح الظلِّ قد تغَيَّر، ولأمرٍ ما تخَيَّرتُ عُلاك ومَن أخصبَ تخَيَّر، وما كنتُ إلا كالغريبِ ارتادَ الجِوار، والمُحَلَّى انتَقى المِعصَمَ حين صاغَ السِّوار (٣)، فأمّا وقد حِمى انتهاضِكَ أعطاني لله ما أعطاني، وحين ورَدَتْ هذه البِشارةُ العامة أوطاني، "فاليومَ يَا عِزّي ويا سُلطاني" [المنسرح]:

قد كنتُ أسلمتُ فيك مقتضِيًا ... فهاتِ إذْ حَلَّ أَعطِني سَلَمي


(١) هنا ينتهي ما ورد في الإحاطة والنفح من هذه الرسالة.
(٢) إشارة إلى قوله في يوم حنين:
يا ليتني فيها جذع ... أخب فيها وأضع
(٣) في الأصل: الصوار.

<<  <  ج: ص:  >  >>