وسَمِعَ مه جُملةً من أشعارِه التي رَثَى بها أخاه أَبا العبّاس وغيرَها. وكان الذي قَطعَ به عن الاستكثارِ من الأخْذِ عنه زَمانةٌ لزِمَتْه أيامَ شبابِه، فكان أبوه لا يَحمِلُ عليه في الاجتهاد في طَلَب العلم ويَقْنَعُ من ذلك بما جاء منه عَفْوًا رأفةً به وإشفاقًا عليه، ثُم إنّ الله تعالى مَنَّ عليه بعافيةِ الصّحة فأخَذَ نفْسَه بالجِدّ والاجتهادِ في طَلَب العلم، فلم يَمُرَّ عليه إلا عامانِ أو نحوُهما حتّى بَذَّ أقرانَه وكثيرًا من أشياخِه، وألَّفَ معجمَ شيوخِه في ذلك الوقت في مجموع وَسَمه بـ"مُلحة الرّاوي وخِتام عَيْبةِ الحاوي"، وقَفْتُ عليه بخطِّه، وذَكَرَ أنه جمَعَه بقُرب من العشرينَ وست مئة، واستفادَهُ منه أصحابُه وجُملةٌ من أشياخِه وقَيَّدوا منه وانتَفَعوا به، وصنَّفَ حينئذٍ "معجَمَ شيوخ القاضي أبي الوليد الباجِيّ"، ورَواهُ أصحابُه، وقد وقَفْتُ أَيضًا عليه بخطِّه.
وانتَصَب للإقراءِ وتدريس العربية ومُعظمُ شيوخِه أحياء، وحُمِلَ عنه العِلمُ واستُجيز وهُو ابنُ العشرينَ سنةً، ولم يزَلْ عاكفًا على استفادةِ العلم وإفادتِه مُنقطِعًا لخِدمتِه لا يشغَلُه عنه شاغلٌ شَغَفًا به وحِرصًا عليه، صابرًا على شدّةِ الفَقْر وقلّة ذاتِ اليد، راضيًا بحالِه ذلك غيرَ متشوّف إلى عَرَض من الدّنيا.
وله برنامَجٌ حَفيلٌ استَوعَبَ فيه ذكْرَ شيوخِه إلى عام خمسةٍ وثلاثينَ وست مئة سَمّاه "نُغْبةَ الوارِد ونُخبةَ مستفادِ الوافِد" ويَشتملُ على مئاتٍ من الرّجال وجماعةٍ من النّساء. وعَمِلَ فهارِسَ لطائفةٍ من أشياخِه، كأبي أُمَيّةَ وأبي الوليد ابن الحاجّ وغيرِهما، ظَهَرَ في ذلك كلّه جَوْدةُ اختيارِه وحُسنُ ترتيبِه وفضلُ اقتدارِه، ووَصَلَ كتابَ "صلة" الحافظ أبي [٤٧ ب] القاسم ابن بَشْكُوال بتقاييدَ كثيرةٍ لم يَتمَّ غَرَضُه منها ولا أمهَلَتْه المنِيّةُ إلى تخليصِها وإخراجِها من مُسَوَّدتِها.
وكان سُناطًا (١)، أخبَرني بعضُ أصحابِنا ممّن لازَمَه وكانت عمّتُه زوجًا لأبي محمدٍ طلحةَ، قال: كان له ثيابٌ للِباسِه مُعَدّةٌ لخروجِه للقاءِ الناس، فإذا كان بدارِه اتّخذ فَرْوًا، فكان يجعَلُ وبَرَه ممّا يلي جِسمَه أيامَ البَرْد وجِلدَه ممّا يليه
(١) السُّناط -ويقال بكسر السين-: الكوسج الذي لا لحية له أصلًا أو كان خفيف العارض.