وتدبّر، لا ليستبين الحق فيعتقده، والهدى فيتبعه، ويؤمن به، ولكنه فكّر ودبّر، وقدّر وهيّأ أموراً يردّ بها الحق الذي عرفه، واعترف به، فقال تعالى: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨)} (المدثر).
ثم عجيب العقلاء من أمره في تفكيره وتدبيره، سخرية واستهزاء منه؛ لأنه زعم أنه بتفكيره وتدبيره، وتهيئته ما هيئ في نفسه من لغو وفساد، مما يؤثر في سير رسالة الحق، قال تعالى: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩)} (المدثر).
أي هلك وأهلك، وقُهر وغُلب على أمره، وذلّ بعد عزّة في قومه، وافتقر بعد الثراء والغنى، وطُرد طرداً أبديًّا من رحمة الله: {كَيْفَ قَدَّرَ (١٩)}!
على أيّ حال هيأ ما هيّأ من الزور والبهتان، وركيك التفكير، وسفساف التدبير، ثم أكّد الله تعالى قهره ولعنته، وما باء به من الخسران، فقال -جلَّ شأنه-: {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠)} (المدثر).
أي مع كونه هيّأ في نفسه كلاماً يردّ به على قومه في أمر محمَّد - صلى الله عليه وسلم - يأثرونه عنه، ويلقون به وفود العرب محذّرين، لم يستطع أن يقنع نفسه بما فكّر وقدّر ودبّر وهيّأ، فرجع وهو مغيظ محنق ينظر ويفرغ النظر في أمره - صلى الله عليه وسلم -، ويطيل التفكير والتدبير، فيزداد غيظاً وحنقاً، وكلما اشتد غيظه وحنقه ضاقت به الدنيا، وضاق بها، قهره الغيظ {عَبَسَ} وقطّب جبينه، واسودّ وجهه، واكفهر سمته، وتغيرّ رسمه، {وَبَسَرَ} كالحاً ممسوخاً عن إنسانيّته، وأخذ عن نفسه وتفكيره، واستولى عليه الدهش، وتملكته الحيرة، فلم يدر ما يقول في أمر محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وهو قد أعلن على قومه جهراً، وأوهم من حوله وهم يتسقطون رأيه، ويستنزلون وحي شيطانه أنهم ما من شيء يتهمون به محمداً - صلى الله عليه وسلم - مما زعموا