وظل مفروق وصحبه على موقفهم مع وثنيتّهم وتقاليدهم الجاهليّة جامدين، لا تهتزّ مشاعرهم، ولا تتحرّك عواطفهم، وانتقل مفروق يستزيد من أمور دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال يسأل: وإلى أيّ شيء -أيضاً- تدعو يا أخا قريش؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠)} (النحل)!
وهنا فقط اهتزّت أريحيّة كرم النحيزة في الرجل، وثارت عواطفه، وتحرّك وجدانه، وتأثّرت مشاعره لمعاني الآية الكريمة، وتذوّقاً لمكارمها وآدابها، فقال وهو منفعل بأثر ما مسّ قلبه: دعوت والله إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، ولقد كذب قوم كذبوك وظاهروا عليك، ولكن هذا الانفعال بمعنى الآية شيء والإيمان بالرسالة شيء آخر؛ لأن الإيمان بالرسالة يعتمد على إسلام الوجه لله تعالى، والإذعان المطلق لأمره ونهيه، والدخول في ساحة طاعته دخولاً لا يخالجه شك، ولا تردّد، ولا يحتاج إلى مشورة أحد، ولا إلى استئذان أحد، وموقف مفروق بن عمرو إلى هنا موقف تكرّم مع نفسه، وأدب خلقي مع حياته، بيد أنه لا يرقى إلى آفاق الإيمان بالله ورسوله، ولذلك التفت إلى صحبه وقرنائه في زعامته، وبدأ بصاحب دينهم وسادن وثنيّتهم: هانئ بن قبيصة، لأن الأمر في هذا الحوار كان أمر دين ودعوة إلى رسالة إلهيّة جاءت إلى الناس بدين جديد، يقتضيهم إذا آمنوا به أن يتركوا دينهم الذي هم عليه، والذي تقلّدوه وراثةً عن آبائهم، فكان لابدّ مشاركة صاحب دينهم في الحوار والحديث، ليعرف رأيه فيما سمع من صاحب الدعوة الجديدة الذي سمعوا أنه