بيننا وبينه في ظلّ رأي قد غبَّ واستوى، والله من وراء ذلك بحكمته وعلمه وتدبيره!
وتكلّم المثنى -وقادة الحرب من أقلّ الناس كلاماً في غير اختصاصهم- ولذلك أمّن المثنى على كلام هانئ، ولكنه زاد على كلام هانئ ما يخصّه في معرفته تقدير القوة الحربيّة التي يخشونها إذا أجابوا دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يؤووه وينصروه، وبيّن المثنى أن منازل قومه تقع بين أنهار كسرى ومياه العرب، وأن أنهار كسرى لا سبيل إلى اقتحامها، والاعتداء على حرمتها وكسر حدودها، فلذلك إذا وقع كان ذنباً لا يغفر، ولا يقبل فيه عذر لمعتذر، وأما مياه العرب فأمرها سهل، وذنبها مغفور، وعذرها مقبول. والقوّة عليها مقدورة، ثم بيّن المثنى السبب في صعوبة أمر أنهار كسرى، وأنها جاءت من قبل الوفاء بالعهد، والمحافظة على زمام العقد، فهم قد نزلوا منازلهم على عهد أخذه عليهم كسرى: ألّا يحدثوا حدثاً، وألًا يؤوا محدثاً، والعرب -كما أسلفنا- من أوفى الأمم بالعهد، وأحفظهم لحرمة عقد، وأبعدهم عن الخيانة والغدر، ثم بيَّن المثنى أن دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما قامت عليه من توحيد الله تعالى، وإخلاص العبادة .. وخلع الشرك والوثنيّة بكافة ضروبها، وسائر ألوانهما، وإقامة موازين العدل والمساواة بين أبناء البشر في أرجاء الأرض وأقطارها، أمر يكرهه الملوك، وخاصة الأكاسرة الذين كانوا -كما عرفنا- يستعبدون شعوبهم استعباد عبوديّة، يتألهون بها عليهم، فكسرى كان في قومه معبوداً من دون الله تعالى، وكان ملكه قائماً على الاستعباد المطلق، والعرب ولا سيما المصاقبون للفرس يعلمون ذلك، ويعلمون شدّة حرص الأكاسرة على ملكهم في صورته الاجتماعيّة القائمة التي خضع لها