للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يكن ذلك بكاف في نظرهم، لبتِّ الحكم في أمر قد يكون من أخطر أمور حياتهم، وحياة قومهم، يرونه زلة في الرأي، وقلّة نظر في العاقبة، والأمر أكبر من أن يؤخذ بالسرعة، لاحتياجه إلى أناة وتريّث ونظر، تقلّب فيه وجوه الرأي، ويجول في أنحائه العقل جولات توزن فيها الأمور بأشباهها، وتقاس المنافع بالمضارّ، وإنما تكون الزلّة مع العجلة!

ثم بيّن هانئ أن هذا الأمر لعظم خطره لا يعنيهم وحدهم، ولا يخصّهم من بين قومهم، بل هو أمرهم وأمر قومهم من ورائهم، والزعامة العادلة هي التي لا تغتاب على الجمهرة فيما يعنيها من الأحداث في حياتها، ولا تستبد في تقرير مصير من قلّدوهم قلائد زعامتهم! ولعل هانئ بن قبيصة أراد أن يعطي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صورة تمثّل زعامتهم لقومهم، ولذلك قال: ومن ورائنا قوم نكره أن نعقد عليهم عقداً، لم يشهدوه ولم يبدوا فيه رأياً؛ لأن ذلك من المفاسد الاجتماعيّة التي تشتّت جمع الجماعة، وتفرّق شملها، وتبدّد وحدتها، وتمزّق روابط الزعامة، وتحلّ عقدتها، وكان هانئ -كما كان صاحبه مفروق- وقّافاً مع وثنيّة لم يقارب الإيمان بالدّين الجديد، ولم يشرد منه، وسكت عن (لا)، و (نعم)، ولكنه أخذ لنفسه الحيطة، وأعطى الرسول - صلى الله عليه وسلم - النَّصَف في عرف تقاليدهم الجاهليّة، وهو في هذا العرف لا تثريب عليه؛ لأنه رجل ما يزال سابحاً في غمرة زعامته الوثنيّة، فقال: ولكنّا نرجع إلى مستقرّنا بين قومنا، ومستودع أسرارنا في ديارنا، وننظر فيما سمعنا منذ اليوم، وينظر معنا قومنا، ويرجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى رأيه في عرض دعوته، وتبليغ رسالته، إلى كل من يلقاه من الناس، أداء لموجبات القيام بحق التبليغ، وينظر فيما سمع منّا، فلعلّ الله يجعل له منا ردْءًا يصدقه، ويجمع

<<  <  ج: ص:  >  >>