في نفسه: ها هو ذا عذاب شديد أليم، ليس وراءه شيء، فعلام أصبر على الإيمان، وعذاب الله لا يزيد على ما أنا فيه من العذاب؟ وإن هو إلا الخلط بين أذى يقدر على مثله البشر، وعذاب الله الذي لا يعرف أحد مداه.
هذا موقف ذلك النموذج من الناس في استقبال الفتنة في ساعة الشدّة:{وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ}! إنا كنا معكم .. وذلك كان موقفهم في ساعة العسرة من التخاذل والتهافت والتهاوي، وسوء التصوير وخطأ التقدير، ولكن حين يجيء الرخاء تنبث الدعوى العريضة، وينتفش المنزوون المتخاذلون، ويستأسد الضعفاء المنهزمون فيقولون:{إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} .. {أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (١٠)}؟!
أوَليس يعلم ما تنطوي عليه تلك الصدور من صبر أو جزع، ومن إيمان أو نفاق؟ فمن الذي يخدعه هؤلاء، وعلى من يموّهون؟
{وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (١١)}! وليكشفنّهم فيُعرفون، فما كانت الفتنة إلا ليتبيَّن الذين آمنوا ويتبيَّن المنافقون!
ونقف لحظة أمام التعبير القرآني الدقيق، وهو يكشف عن موضع الخطأ في هذا النموذج من الناس حين يقول:{جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ}!
فليس الأمر أن صبرهم قد ضعف عن احتمال العذاب، فمثل هذا يقع للمؤمنين الصادقين في بعض اللحظات -وللطاقة البشريّة حدود- ولكنهم يظلُّون يفرقون تفرقةً واضحةً في تصوّرهم وشعورهم بين كل ما يملكه البشر لهم من أذى وتنكيل، وعذاب الله العظيم، فلا يختلط في حسّهم أبداً عالم الفناء الصغير وعالم الخلود الكبير، حتى في هذه اللّحظة التي يتجاوز عذاب الناس