الكثرة المشاهدة تمسك أصحاب الدعوة بدعوتهم، فعلى الرغم من التضحيات والآلام، إلا أن في هذه الدعوة ما هو أغلى مما يضحّون به وأثمن .. وعندئذ تتقدّم الكثرة المشاهدة لترى هذا العنصر الغالي الثمين الذي يرجح كل أعراض الحياة، ويرجح الحياة ذاتها عند أصحاب الدعوة، وعندئذ يدخل المشاهدون أفواجاً في هذه العقيدة بعد طول مشاهدة لأحداث الصراع!
ومن أجل هذا كله جعل الله لكل نبيّ عدوًّا من المجرمين، وجعل المجرمين يقفون في وجه دعوة الحق، وحملة الدعوة يكافحون المجرمين، فيصيبهم ما يصيبهم وهم ماضون في الطريق، والنهاية مقدّرة من قبل، ومعروفة لا يخطئها الواثقون بالله .. إنها الهداية إلى الحق؛ لأنه الانتهاء إلى النصر: {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (٣١)}!
وبروز المجرمين في طريق الأنبياء أمر معتاد؛ فدعوة الحق إنما تجيء في أوانها لعلاج فساد واقع في الجماعة أو في البشريّة .. فساد في القلوب؛ وفساد في النظم؛ وفساد في الأوضاع .. ووراء هذا الفساد يكمن المجرمون، الذين ينشئون الفساد من ناحية، ويستغلّونه من ناحية، والذين تتفق مشاربهم مع هذا الفساد، وتتنفّس شهواتهم في جوّه الوبيء، والذين يجدون فيه سنداً للرغبات الزائفة التي يستندون هم في وجودهم إليها .. فطبيعي إذن أن يبرزوا للأنبياء وللدعوات دفاعاً عن وجودهم واستبقاءً للجوّ الذي يستطيعون أن يتنفّسوا فيه، وبعض الحشرات يختنق برائحة الأزهار العبقة، ولا يستطيع الحياة إلا في المستنقع الآسن، وكذلك المجرمون .. فطبيعي إذن أن يكونوا أعداء لدعوة الحق، ويستميتون في كفاحها .. وطبيعي أن تنتصر دعوة الحق في النهاية؛ لأنها تسير في خط الحياة، وتتّجه إلى الأفق الكريم الوضيء الذي تتّصل فيه