وكم من نبيّ قاتلت معه جماعات كثيرة، فما ضعفت نفوسهم لما أصابهم من النبلاء والكرب والشدّة والجراح، وما ضعفت قواهم عن الاستمرار في الكفاح، وما استسلموا للجزع ولا للأعداء .. فهذا شأن المؤمنين المنافحين عن عقيدة ودين: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦)}!
الذين لا تضعف نفوسهم، ولا تتضعضع قواهم، ولا تلين عزائمهم، ولا يستكينون أو يستسلمون .. والتعبير بالحبّ من الله للصابرين له وقعه، وله إيحاؤه، فهو الحبّ الذي يأسو الجراح، ويمسح على القرح، ويعوض ويربو عن الضرّ والقرح والكفاح المرير!
وإلى هنا كان السياق قد رسم الصورة الظاهرة لهؤلاء المؤمنين في موقفهم من الشدّة والابتلاء، فهو يمضي بعدها ليرسم الصورة الباطنة لنفوسهم ومشاعرهم .. صورة الأدب في حق الله، وهم يواجهون الهول الذي يذهل النفوس، ويقيّدها بالخطر الراهق لا تتعدّاه؛ ولكنه لا يذهل نفوس المؤمنين عن التوجّه إلى الله .. لا لتطلب النصر أول ما تطلب -وهو ما يتبادر عادة إلى النفوس- ولكن لتطلب العفو والمغفرة، ولتعترف بالذنب والخطيئة، قبل أن تطلب الثبات والنصر على الأعداء: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (١٤٧)} (آل عموان)!
إنهم لم يطلبوا نعمة ولا ثراء، بل لم يطلبوا ثواباً ولا جزاء .. لم يطلبوا ثواب الدّنيا ولا ثواب الآخرة .. لقد كانوا أكثر أدباً مع الله، وهم يتوجّهون إليه، بينما هم يقاتلون في سبيله، فلم يطلبوا منه سبحانه إلا غفران الذنوب، وتثبيت الأقدام .. والنصر على الكفّار .. حتى النصر لا يطلبونه لأنفسهم؛