جنوده قبل المعركة، وفصله للذين ضعفوا وتركهم وراءه .. ثم -وهذا هو الأهم - عدم تخاذله، وقد تضاءل جنوده تجربة بعد تجربة، ولم يثبت معه في النهاية إلا تلك الفئة المختارة، فخاض بها المعركة ثقة منه بقوّة الإيمان الخالص، ووعد الله الصادق للمؤمنين!
والعبرة الأخيرة التي تكمن في مصير المعركة .. أن القلب الذي يتّصل بالله تتغيّر موازينه وتصوّراته؛ لأنه يرى الواقع الصغير المحدود بعين تمتدّ وراءه إلى الواقع الكبير الممتدّ الواصل، وإلى أصل الأمور كلها وراء الواقع الصغير المحدود، فبهذه الفئة المؤمنة الصغيرة التي ثبتت وخاضت المعركة وتلقّت النصر، كانت ترى من قلّتها وكثرة عدوّها ما يراه الآخرون الذين قالوا:{لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ}! ولكنها لم تحكم حكمهم على الموقف، إنما حكمت حكماً آخر، فقالت: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٢٤٩)}!
هكذا .. {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً}! بهذا التكثير، فهذه هي القاعدة في حسّ الذين يوقنون أنهم ملاقو الله .. القاعدة: أن تكون الفئة المؤمنة قليلة؛ لأنها هي التي ترتقي الدرج الشاقّ، حتى تنتهي إلى مرتبة الاصطفاء، والاختيار .. ولكنها تكون الغالبة .. لأنها تتّصل بمصدر القوى، ولأنها تمثّل القوَّة الغالبة، قوة الله الغالب على أمره، القاهر فوق عباده. محطّم الجبّارين، ومخزي الظالمين، وقاهر التكبّرين!
وهمِ يكون هذا النصر لله:{بِإِذْنِ اللَّهِ}! ويعلّلون بعلّته الحقيقية: {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}! .. فيدلون بهذا كله على أنهم المختارون من الله لمعركة الحق الفاصلة بين الحق والباطل!