لقد كانت الحياة كلها تأسن وتتعفّن، لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض .. ولولا أن في طبيعة الناس التي فطرهم الله عليها أن تتعارض مصالحهم واتجاهاتهم الظاهريّة القريبة، لتنطلق الطاقات كلها تتزاحم وتتغالب وتتدافع، فتنفض عنها الكسل والخمول، وتستجيش ما فيها من مكنونات مذخورة، وتظل أبداً يقظة عاملة مستنبطة لذخائر الأرض، مستخدمة قواها وأسرارها الدفينة .. وفي النهاية يكون الصلاح والخير والنماء .. يكون بقيام الجماعة الخيّرة المتجرّدة، تعرف الحق الذي بيّنه الله لها. وتعرف طريقها إليه واضحاً، وتعرف أنها مكلّفة بدفع الباطل، وإقرار الحق في الأرض، وتعرف أن لا نجاة لها من عذاب الله إلا أن تنهض بهذا الدور النبيل، وإلا أن تحتمل في سبيله ما تحتمل في الأرض طاعةً لله وابتغاءً لرضاه .. !
وهنا يمضي الله أمره، وينفذ قدره، ويجعل كلمة الحق والخير والصلاح في العليا، ويجعل حصيلة الصراع والتنافس والتدافع في يد القوّة الخيّرة البانية، التي استجاش الصراع أنبل ما فيها وأكرمه، وأبلغها أقصى درجات الكمال المقدّر لها في الحياة!
ومن هنا كانت الفئة القليلة المؤمنة الواثقة بالله تغلب في النهاية وتنتصر؛ ذلك أنها تمثّل إرادة الله العليا في دفع الفساد عن الأرض، وتمكين الصلاح في الحياة .. إنها تنتصر؛ لأنها تمثل غاية عليا تستحق الانتصار!
ويطالعنا خطاب الله للجماعة المسلمة الأولى، يوجهها إلى تجارب الجماعات المؤمنة قبلها، وإلى سنته سبحانه في تربية عباده المختارين، الذين يكل إليهم رايته، وينوط بهم أمانته في الأرض ومنهجه وشريعته، وهو خطاب مطرد لكل من يجتاز هذا الدور العظيم: