إن مثل هذه التوجيهات في القرآن الكريم يساء إدراكها، وإدراك مداها. فيذهب بها جماعة من المفكّرين -قديماً وحديثاً- إلى إعطاء الإدراك البشريّ لمملطة الحكم النهائية في أمر الدّين كله، ويجعلون منه ندًّا للشرع، بل يجعلونه هو المسيطر على شرع الله!
الأمر ليس كذلك .. الأمر أن هذه الأداة العظيمة -أداة الإدراك البشري- هي بلا شك موضع التكريم من الله، ومن ثم يكل إليها إدراك الحقيقة الأولى: حقيقة أن هذا الدّين من عند الله، وهناك ظواهر يسهل إدراكها، وهي كافية بذاتها للدلالة، دلالة هذا الإدراك البشريّ ذاته، على أن هذا الدّين من عند الله .. ومتى أصبحت هذه القاعدة الكبيرة مسلّماً بها أصبح من منطق هذا الإدراك ذاته أن يسلم -بعد ذلك- تلقائيًّا بكل ما ورد في هذا الدّين -لا يهمّ عندئذ أن يدرك حكمته الخفيّة أو لا يدركها، فالحكمة متحقّقةٌ حتماً ما دام من عند الله، ولا يهمّ عندئذ أن يرى (المصلحة) متحقّقة فيه في اللحظة الحاضرة .. والعقل البشري ليس ندًّا لشريعة الله، فضلاً عن أن يكون الحاكم عليها؛ لأنه لا يدرك إلا إدراكاً ناقصاً في المدى المحدود، ويستحيل أن ينظر من جميع الزوايا إلى جميع المصالح -لا في اللحظة الواحدة ولا في التاريخ كله- بينما شريعة الله تنظر هذه النظرة، فلا ينبغي أن يكون الحكم فيها، أو في حكم ثابت قطعي من أحكامها موكولاً إلى الإدراك البشري .. وأقصى ما يتطلّب من الإدراك البشري أن يتحرّى إدراك دلالة النصّ وانطباقه، لا أن يتحرّى المصلحة أو عدم المصلحة فيه! فالمصلحة متحقّقة أصل أبو جود النصّ من قبل الله تعالى .. إنما يكون هذا فيما لا نص فيه، مما يجدّ من الأقضية، وهذا جاء بيان المنهج فيه، وهو ردّه إلى الله والرسول .. وهذا هو مجال الاجتهاد الحقيقي، إلى جانب الاجتهاد في فهم