زمن قد يطول وقد يقصر -أدلّ على صدق الرسول وبعده عن الهوى من ذلك النوع- أي النسخ الاصطلاحي المعروف في أصول الفقه المتفق على جوازه ووقوعه من جمهور الأئمة، ولم يخالف فيه جوازاً أو وقوعاً سوى شذوذ من الناس، وقد شهر بهذه المخالفة أبو مسلم الأصفهاني ومن تقيّله من المتأخّرين!
وهذا النوع هو المعروف بإزالة حكم شرعي بحكم شرعي آخر لحكمة تشريعيّة، كتخفيف لحكم الأول، أو انتهاء زمن العمل به، أو زوال أثر الحكم الأوّل، أو كون الحكم الثاني أزجر منه عند كثرة الفساد وشيوعه!
قلنا: إن جعل نوع نسخ ما ألقاه الشيطان من كلمات الكفر أدلّ على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - من نوع النسخ الاصطلاحي أمر عجيب في قياس الاستقامة العلميّة ومنطق العقل، وإلا فكيف يكون نسخ ما ألقى الشيطان من كلمات الشرك والكفر على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - في قراءته لآيات الله بعد استقراره زمناً -وهو محال- أدلّ على صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - وبُعده عن الهوى، وهذا النسخ بهذا المعنى يدلّ على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل من الشيطان كلمات الكفر وأدخلها في آيات الله على أنها وحي من الله تعالى وقرآنه، واستقرّ عنده زمناً حتى نسخ وأزيل بوحي جديد!!
ولو صحّ هذا -وما زعمه (الغرنوقيّون) - فماذا بقي للنبي - صلى الله عليه وسلم - من معالم العصمة، وثقة الأمّة المأمورة بمتابعته في جميع ما يبلّغه عن الله تعالى، وقد بلّغها هذا الكفر الخبيث في زعم (الغرنوقيّين) القائلين بثبوت (أكذوبة الغرانيق)، كما جاءت بها المراسيل الواهية الباطلة؟! وما الضمان عند الأمّة في أن تقبل وتصدّق أن الوحي الناسخ لأكذوبة الشيطان هو وحي صادق من عند الله، وليس من تلبيس الشيطان؟! وما هو الضمان عند الأمّة فيما ينزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك من الوحي لتتقبّله وتمتثل لأحكامه تحقيقاً لوجوب المتابعة؟!