أمّا نسخ حكم شرعي بحكم شرعي آخر لحكمة اقتضت ذلك، وكلاهما -بالقطع- من عند الله فهو الدّالّ على صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعده عن الهوى؛ لأن الناسخ والمنسوخ كلاهما من عند الله تعالى بوحيه القاطع بلا افتراء، وكلاهما شرع صادق واجب الامتثال في زمنه، وليس للشيطان فيه أيّ مدخل، والنبيّ - صلى الله عليه وسلم - متبع في هذا النوع من النسخ أمر الله تعالى محقق لقول الله: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩)} (الأحقاف)!
ثم قال الإِمام ابن تيمية: فإنه -أي الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا كان يأمر بأمر، ثم يؤمر بخلافه وكلاهما من عند الله، وهو مصدّق في ذلك، فإذا قال عن نفسه: إن الثاني هو الذي من عند الله وهو الناسخ، وإن ذلك المرفوع الذي نسخه الله ليس كذلك كان أدلّ على اعتماده للصّدق وقوله الحق!
قلنا: هذا الكلام مغلق غامض، بل ظاهر التناقض، فعبارة الشيخ الإِمام السابقة تقرّر أن نوع النسخ فيما يلقيه الشيطان أدلّ على صدق النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وبعده عن الهوى، وعبارته هنا تقرّر أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يأمر بأمر ثم يأمر بخلافه، وكلاهما من عند الله، وهو مصدّق في الأمرين -هذا مسلّم في نوع النسخ الشرعي الذي هو إزالة حكم شرعيّ بحكم شرعيّ آخر لحكمة مقتضية لذلك!
أمّا نوع النسخ الذي أزال فيه الوحي الصادق حكماً شيطانيًّا بحكم آخر منزل من عند الله -في زعم مثبتي أكذوبة الغرانيق- فإن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر فيه بأمر ثم أمر بخلافه، وإنما الذي اعتمده مثبتو (أكذوبة الغرانيق الخبيثة الباطلة) أن الشيطان هو صاحب الأمر الأول بإلقائه -كما تقول روايات الأكذوبة، على