تلك المدينة التي كانت مسقط رأس الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وموطن أسرته، ووطن قبيلته، وصفها القرآن الكريم على لسان خليل الله إبراهيم - عليه السلام - في قوله جل شأنه:{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ}[ابراهيم: ٣٧]!
وهذا أصدق وصف (١)، وأجمع كلمة لخصائصها الطبيعيّة، فكلمة (واد) تصورأتم تصوير وضعها على الأرض، فهي منخفض تحيط به الجبال، وكلمة {غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} تعطيك أن هذا الوادي له طبيعة شحيحة أشد الشح بالماء، فهي لا تكاد تجود به نبعاً، وإذا جادت به غيثاً تفرّق في غير كبير فائدة، وتعطيك نتيجة لذلك جدوبة الأرض، وتعطيك صرامة الجو، ولفح السموم، وهو وصف في جملته يُدْخل على النفس يأساً، قلما أن تجد وسيلة من العيش الرغيد، أو سبباً من أسباب الكسب الربيح، في هذا البلد السجين بين شاهقات الجبال!
بيد أن (مكة المكرمة) بلد الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم تستسلم للطبيعة تحبسها في واديها الأجرد، بين جبالها السود المكفهرّة القاسية، بل تداركتها العناية الإلهيّة، فأهدت إليها (الكعبة) بيت الله الحرام، فصارت بها (مكة المكرمة) بلد الله الحرام، وكان الذي أقام الكعبة إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - وإبراهيم جد العرب الذي تنتهي إليه مفاخرهم، وإسماعيل أبوهم، وقد تعرّب منذ كان، فلم يعرف غير العرب شعباً، ولا غير الجزيرة وطناً، ولا غير (مكة المكرمة) بلداً، فحفظ الأبناء تراث الآباء، ووعى الأحفاد ذخيرة الأجداد!
وعظّم العرب (الكعبة البيت الحرام) وعظّموا لتعظيمها (مكة المكرمة)
(١) محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ١: ٤٢ بتصرف.