الأرض وما عليها من جبال ووديان وحيوان ونبات، والجو بعواصفه وأمطاره ورعوده وبروقه .. كلها أمور مرئيّة مشهودة، ولكن ما مبلغ علم الناس بها .. لا شيء سوى هذه الظواهر المكرورة في كل وقت وحين، أما ما وراء ذلك فهو محجب مغلق!
فأي شيء إذن في حياة الصحراء معلوم؟!
هذه الحيرة الفكريّة هي الآية الأولى التي قرأها الرسول - صلى الله عليه وسلم - في كتاب الوجود على صفحة الصحراء .. وهي التي رجع بها إلى مكة السادرة في غي وثنيّتها، السكرى بخمر أصنامها، المحجوبة عن التفكير في جمال الكون بتجارتها وأسواقها ومواسمها وأعيادها وعاداتها، فنظرت إليه ونظر إليها!
نظرت إليه بمنظار وثنيتها فلم تره يمشي إلى أصنامها لاهياً، كما يمشي أطفالها .. بل رأت فيه طفلاً كأنه يحمل من هموم الدنيا وأحزانها ما صرفه عن اللهو واللعب!
وارحمتا لهذا الصبي؛ إنه يتيم، يرى لداته من الأطفال يرتمون في أحضان آبائهم، فيضمّونهم إلى صدورهم، فيملؤه الحزن ألاّ يرى له أباً بين هؤلاء الآباء، كذلك فكرت مكة في نظرتها إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - في صمته وعزلته عن معابثها وملاهيها!
ونظر إليها الرسول - صلى الله عليه وسلم - من خلال حيرته الفكريّة، فرأى صوراً هزليّة، ورأى مسخاً للكرامة الإنسانيّة!