للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

البيان والفصاحة، ثم هم مختلفون في ذلك، على تفاوت ما بين طبقاتهم في اللغات، وعلى اختلاف مواطنهم، فمنهم الفصيح والأفصح، ومنهم الجافي والمضطرب، ومنهم ذو اللوثة والخالص في منطقه، إلى ما كان من اشتراك اللغات وانفرادها بينهم، وتخصص بعض القبائل بأوضاع وصيغ مقصورة عليهم، لا يساهم فيها غيرهم من العرب، إلا من خالطهم أو دنا منهم دنو المأخذ)!

(فكان - صلى الله عليه وسلم - يعلم كل ذلك على حقه، كأنما تكاشفه أوضاع اللغة بأسرارها وتبادره بحقائقها، فيخاطب كل قوم بلحنهم وعلى مذهبهم، ثم لا يكون إلا أفصحهم خطاباً، وأسدّهم لفظاً، وأبينهم عبارة، ولم يُعرف ذلك لغيره من العرب، ولو عُرف لقد كانوا نقلوه وتحدّثوا به واستفاض فيهم)!

(ومثل هذا لا يكون لرجل من العرب إلا عن تعليم أو تلقين أو رواية عن أحياء العرب حيًّا بعد حي، وقبيلاً بعد قبيل، حتى يَفْلى (١) لغاتهم، وبتتبع مناطقهم، مستفرغاً في ذلك متوفّراً عليه، وقد علمنا أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يتهيّأ له شيء مما وصفنا، ولا تهيأ لأحد من سائر قومه على ذلك الوجه، علماً ليس بالظن، ويقيناً لا مساغ للشبهة فيه، إذا ترادفت به طرق الأخبار المتواترة، وكان مصداقه من أحوال العرب أنفسهم، فما عُرف أن أحداً منهم تقصص اللغات، وحفظ ما بينها من فروق الأوضاع، واختلاف الصيغ، وأنواع الأبنية، واستقصى لذلك يستظهر به عليهم، أو ينتحله فيهم، بل كانت هذه الأسباب مقطوعة منهم؛ لا تجد في الطبيعة ما يمتد بها أو ينمّيها، أو يجعل لها عندهم شأناً، أو يبغيها حاجة من الحاجات الباعثة عليها، فليس إلا أن يكون ما خص به النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك قد


(١) يقال: فلى الأمر: تدبره، والقضية: أطال التأمل فيها والنظر: المرجع السابق.

<<  <  ج: ص:  >  >>