الحاسة، وثقوب الذهن، واجتماع النفس، وقوة الفطرة، ووثاقة الأمر كله بعضه إلى بعض)!
(ولا يذهبن عنك أن للنشأة اللغويّة في هذا الأمر ما بعدها، وأن أكبر الشأن في اكتساب المنطق واللغة، للطبيعة والمخالطة والمحاكاة، ثم ما يكون من سمو الفطرة وقوتها، فإنما هذه سبيله: يأتي من ورائها، وهي الأسباب إليه، وقد نشأ الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتقلّب في أفصح القبائل وأخلصها منطقاً، وأعذبها بياناً، فكان مولده -كلما أسلفنا- في بني هاشم، وأخواله في بني زهرة، ورضاعه في سعد بن بكر، ومنشؤه في قريش، ومتزوجه في بني أسد، ومهاجرته إلى بني عمرو، وهم الأوس والخزرج من الأنصار، لم يخرج عن هؤلاء في النشأة واللغة، ولقد كان في قريش وبني سعد وحدهم ما يقوم بالعرب جملة)!
(والفصاحة أكبر أمر العرب -كما عرفنا-، والكلام سيد عملهم، فما دخلتهم له حمية، ولا تعاظمهم ولا ردوه، ولا غضّوا منه، ولا وجدوا إلى نقضه سبيلاً، ولا أصابوا للتهمة عليه طريقاً، ولو كان فيهم أفصح منه لعارضوه به، ولأقاموه في وزنه، ولجعلوا من ذلك سبباً لنقض دعوته، والإنكار عليه، غير أنهم عرفوا من الرسول - صلى الله عليه وسلم - الفصاحة على أتم وجوهها، وأشرف مذاهبها، ورأوا له في أسبابها ما ليس لهم، ولا يتعلقون به ولا يطيقونه، وأدنى ذلك أن يكون قوي العارضة، مستجيب الفطرة، ملهم الضمير، متصرف اللسان، يضعه من الكلام حيث شاء، لا يستكره في بيانه معنى، ولا يندُّ في لسانه لفظ، ولا تغيب عنه لغة، ولا تضرب له عبارة، ولا ينقطع له نظم، ولا يشوبه تكلف، ولا يشق عليه مَنْزْعٌ، ولا يعتريه مما يعتري البلغاء في وجوه الخطاب وفنون الأقاويل من التخاذل، وتراجع الطبع، وتفاوت ما بين العبارة والعبارة، والتكثر لمعنى بما