ليس منه، والتحيّف لمعنى آخر بالنقض فيه، والعلو في موضع والنزول في موضع، إلى أمثال أخرى، لا نرى العرب قد أقروا له بالفصاحة إلا وقد نزه -صلى الله عليه وسلم- عن جميعها، وسلم كلامه منها، وخرج سبكه خالصاً ينبض تحت أصابعه، ولو هم اطّلعوا منه على غير ذلك، أو ترامى كلامه إلى شيء من أضداد هذه المعاني، لقد كانوا أطالوا في رد فصاحته وعرّضوا، ولكان ذلك مأثوراً عنهم، دائراً على ألسنتهم، مستفيضاً في مجالسهم ومناقلاتهم، ثم لردّوا عليه القرآن، ولم يستطع أن يقوم لهم في تلاوته وتبيينه، ثم لكان فيهم من يعيب عليه في مجلسه حديثه ومحاضرة أصحابه، أو ينتقص أمره ويغض من شأنه، فإن القوم خُلَّص، لا يستجيبون إلا لأفصحهم لساناً، وأبينهم بياناً، وخاصة في أول النبوة، وحدثان العهد بالرسالة، فلما لم يعترضه شيء من ذلك، وهو لم يخرج من بين أظهرهم، ولا جلا عن أرضهم، ورأينا هذا الأمر قد استمر على سنته، واطّرد إلى غايته، وقام عليه الشاهد القاطع من أخبارهم .. علمنا قطعاً وضرورة أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان أفصح العرب، وافياً بغيره، كافياً من سواه، وأنه في ذلك آية من آيات الله لأولئك القوم)!
لقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- من فصاحة اللسان وبلاغة القول -كما يقول القاضي عياض- (١) بالمحل الأفضل، والموضع الذي لا يُجهل، سلامة طبع، وبراعة منزع، وإيجاز مقطع، ونصاعة لفظ، وجزالة قول، وصحة معانٍ، وقلة تكلف، أوتي جوامع الكلم، وخص ببدائع الحكم، وعلم ألسنة العرب، فكان يخاطب كل أمة بلسانها، ويحاورها بلغتها، ويباريها في منزع بلاغتها، حتى كان كثيراً من أصحابه يسألونه في موطن عن شرح كلامه، وتفسير قوله!