قدسه ما كشف عن روحه العلية أغطية الكثافة البشريّة، فكان - صلى الله عليه وسلم - يرى الضوء، ويسمع الصوت، ويكلَّم، ويبشَّر، حتى بلغت به الأنوار القدسيّة آفاق الكمال النبوي، ووقف بها على الدرج الأعلى من مراتب النبوّة، وأتمّ الله تعالى عليه وله نعمة الاستعداد الأسمى لتلقّي رسالة الخلود!
وجاء الملك جبريل أمين الوحي مفاجئًا دون تمهيد لهذا اللقاء الذي لا يماثله لقاء قط بين متلاقيين من المخلوقات!
فهو لقاء بين طبيعتين مختلفتين في التكوين أشدّ الاختلاف .. بين طبيعة مزدوجة الإبداع والخلق، فهي بشريّة روحانيّة هي طبيعة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وطبيعة موّحدة الإبداع في أعلى درجات الروحانيّة والاختصاص العلويّ، هي طبيعة أمين الوحي جبريل -عليه السلام!
وليس بين إنسان من البشر بكل ما فيه من كمال البشريّة وطبيعتها، وملك بكل ما في طبيعته من روحانيّة لها اختصاصها القدسي في الملأ الأعلى، تناسبٌ يقع به اللقاء لتلقّي كلمات الله المنزلة من غيب عزّه وجلاله، إلا إذا تغلّب الجانب الروحاني من الطبيعة المزدوجة على الجانب البشري منها، تحقيقًا للتناسب والمشاكلة!
ومن ثم كان تحبيب الخلوة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد بدء النبوّة بوحي الرؤيا الصادقة -كما أسلفنا- أشبه بحضانة لميلاد الرسالة في عهد الإعداد لطور الانتقال إلى تحمّل أعبائها، والقيام بحق تبليغها عامة شاملة للإنسانيّة في مشارق الأرض ومغاربها، بما يختلف عليها من أجيال متتابعة، لا ينقطع توالدها البشري متواردة على مرّ الزمن!