ومن هنا يتجلّى وجه المفاجأة في مجيء الحق، ولقاء الملك، وطلب القراءة ممن لم يكن قارئًا، واستفراغ بشريّته بالغطّ الملائكي المتكرّر مع كل طلب للقراءة التي لم تكن بمفهومها المعهود ممكنة الحصول!
وكأن هذا الغطّ بصورته البليغة البالغة هو في حقيقته إذابة لروابط العناصر الطبيعيّة البشريّة عند الرسول - صلى الله عليه وسلم - دون إفنائها إفناء يفقدها وجودها، وإنما هو تفتيت لترابط عناصرها، حتى يخفّ وزنها، إلى جانب الطبيعة الروحانيّة، لتشبعها بأنوار الجلال الإلهي، حتى تنفرد بالحركة الوجوديّة في تلقّي الوحي اليقظي، وأخذ كلمات الله من حاملها الأمين!
وبقاء الطبيعة البشريّة بحقيقتها الأصيلة وراء مشهد تلقّي الوحي اليقظي ضرورة لتبليغ الرسالة، استجابة للتناسب بين الرسول والأمّة؛ لأنّ كل جنس يأنس بجنسه، والجنس إلى الجنس أميل، وإلى ذلك يشير القرآن الحكيم في قول الله تعالى:{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا}[الأنعام: ٩]!
وإنما أقدر الله -عزّ شأنه- أنبياءه على رؤية الملك لتلقّي الوحي عنه، بخلقه قدرة خاصّة فيهم، مكّنهم بها من ذلك، معجزة لهم لإبلاغهم رسالات الله، ليبلغوها إلى أممهم، وتلك القدرة نبصرها في تغليب جانب الطبيعة الروحانيّة على جانب الطبيعة البشريّة، وإذابة روابط عناصرها، وتفتيت وشائجها الفرزيّة، لتنفرد الطبيعة الروحانيّة بقوة الوجود الخاصّ الذي يتحقّق به تلقّي الوحي عن الملك المرسل به من عند الله العزيز الحكيم!