استقرارها في الأعماق البعيدة .. فلما صارت لهم دولة في المدينة ذات سلطان تنزّلت الشرائع، وتقرر النظام الذي يواجه حاجات المجتمع الواقعية، والذي تكفل له الدولة بسلطانها الجدّيّة والنفاذ!
ولم يشأ الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن ينزل عليهم النظام الإِسلامي ليختزنوا معالمه جاهزة، حتى تطبق بمجرّد قيام الدولة في المدينة! ذلك أن (الدّين القيّم)، دين الأمّة الوسط الخيّرة، يواجه الواقع بحجمه وشكله وملابساته، لصوغه في قالبه الخاص، وفق حجمه وشكله وملابساته!
والله -عزّ وجلّ- يريد أن يكون هذا الدّين كما أراده .. عقيدة تملأ الجَنان في الإنسان، وتفرض سلطانها في الضمير!
ومن ثم تخلص النفوس لله، وتعلن عبوديّتها لله!
والقرآن الكريم لم يعرض هذا الأمر في صورة (نظريّة)!، ولا في صورة (لاهوت)!، ولا في صورة جدل كلامي كالذي عُرف فيما يسمى علم (الكلام)!
لقد كان يخاطب فطرة (الإنسان) بما في وجوده هو وبما في الوجود من حوله من دلائل وإيحاءات .. كان يستنقذ فطرته من الركام، ويخلص أجهزة الاستقبال الفطريّة مما ران عليها، وعطّل وظائفها، ويفتح منافذ الفطرة، لتتلفى الموحيات المؤثرة، وتستجيب لها!
كان هذا القرآن يخوض بهذه العقيدة معركة حيّة واقعيّة .. مع الركام المعطّل للفطرة .. في نفوس آدمّية حاضرة واقعة!
كان يواجه واقعًا بشريًّا كاملًا بكل ملابساته الحيّة، ويخاطب الكينونة البشريّة بجملتها في خضمّ هذا الواقع!