للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

جوامع الكلم أنَّ الله تعالى يجمع الأمور الكثيرة التي كانت تُكتَب في الكتب قبله في الأمر الواحد والأمرين، أو نحو ذلك»، وأنَّ في رواية أبي ذرٍّ: «قال أبو عبد الله» بدل قوله: «محمَّدٌ» فقيل: المراد البخاريُّ، وصوَّب (١) ورجَّح (٢) الحافظ ابن حجرٍ: أنَّه محمَّد بن مسلمٍ الزُّهريُّ، وأنَّ غير الزُّهريِّ جَزَمَ بأنَّ المراد بجوامع الكلم القرآنُ بقرينة قوله: «بُعِثت» والقرآن هو الغاية القصوى في إيجاز اللَّفظ واتِّساع المعاني، قد بهرت بلاغته العقول، وظهرت فصاحته على كلِّ مقول، أعجز بإعجازه فرسان البلاغة البارعة، وفرَّق بجوامع كلمه ذوي الألفاظ النَّاصعة، والكلمات الجامعة، وكانوا قد حاولوا الإتيان ببعض شيءٍ منه فما أطاقوه، وراموا ذلك فما استطاعوه؛ إذ رأَوه نظمًا عجيبًا خارجًا عن أساليب كلامهم، ورصفًا بديعًا مبايِنًا لقوانين بلاغتهم ونظامهم، فأيقنوا بالقصور عن معارضته، واستشعروا العجز عن مقابلته، ولمَّا سمع المغيرة بن الوليد من النَّبيِّ ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾ الاية [النحل: ٩٠] قال: والله إنَّ له لحلاوةً، وإنَّ عليه لطلاوةً، وإنَّ أسفله لمغدِقٌ، وإنَّ أعلاه لمثمِرٌ. وسمع أعرابيٌّ رجلًا يقرأ: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ﴾ [الحجر: ٩٤] فسجد وقال: سجدت لفصاحته، وقد ذكروا من أمثلة جوامع الكلم في القرآن قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: ١٧٩] وقوله: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ﴾ [سبأ: ٥١] وقوله: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [فصلت: ٣٤] وقوله: ﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي﴾ الاية [هود: ٤٤] قال القاضي عياضٌ: إذا تأمَّلت هذه الآياتِ وأشباهها حقَّقت (٣) إيجاز ألفاظها، وكثرة معانيها، وديباجة عبارتها، وحُسْن تأليف حروفها، وتلاؤم كَلِمِها، وأنَّ تحت كلِّ لفظةٍ منها جُملًا كثيرة، وفُصولًا جمَّة، وعلومًا زواخر، مُلِئت الدَّواوين من بعض ما استُفيد منها، وكثُرت المقالات في المستَنْبَطات عنها. وقد حكى الأصمعيُّ أنَّه سمع كلام جاريةٍ، فقال لها: قاتلك الله! ما أفصحَك! فقالت: أيُعدُّ (٤) هذا فصاحةً بعد قوله تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ﴾ [القصص: ٧] فجمع في آيةٍ واحدةٍ بين أمرين، ونَهْيين، وخبرين، وبِشارتين، ومن أمثلة


(١) «وصوب»: ليس في (ص).
(٢) «ورجَّح»: ليس في (ع).
(٣) في (ع): «تحقَّقت».
(٤) في (ب) و (س): «أَوَ تعدُّ»، والمثبت موافق للشفا.

<<  <  ج: ص:  >  >>