للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وقال في «الإمتاع»: جعل الله تعالى لأنبيائه الانسلاخ من حالة البشريَّة إلى حالة المَلَكيَّة في حالة الوحي، فطرةً فطرهم الله عليها، وجبلَّةً صوَّرهم فيها، ونزهَّهم عن موانع البدن وعوائقه ما داموا ملابسين لها؛ بما ركَّب في غرائزهم من العصمة والاستقامة، فإذا انسلخوا عن بشريَّتهم وتلقَّوا في ذلك ما يتلقَّونه؛ عاجوا على (١) المدارك البشريَّة؛ لحكمة التَّبليغ للعباد، فتارةً يكون الوحي؛ كسماع دويٍّ، كأنَّه رمزٌ من الكلام يأخذ منه المعنى الذي أُلقِي إليه، فلا ينقضي الدَّويُّ إلَّا وقد وعاه وفهمه، وتارةً يتمثَّل له الملك الذي يلقي إليه رجلًا، فيكلِّمه ويعي ما يقوله. والتَّلقِّي من الملك، والرُّجوع إلى البشريَّة، وفهمه ما أُلقِي إليه؛ كلُّه كأنَّه في لحظةٍ واحدةٍ، بل أقرب من لمح البصر؛ ولذا سُمِّي وحيًا لأنَّ الوحي في اللُّغة: الإسراع، كما مرّ. وفي التَّعبير عن «الوحي» في الأولى: بصيغة الماضي، وفي الثَّانية: بالمضارع، لطيفةٌ من البلاغة، وهي: أنَّ الكلام جاء مجيء التَّمثيل لحالتَي الوحي، فتمثَّلت حالته الأولى بالدَّويِّ الذي هو غير كلامٍ، وإخبارٌ أنَّ الفهم والوعيَ يتبعه عقب انقضائه مناسب (٢) عند تصوير انفصال العبارة عن الوحي (٣) بالماضي المطابق للانقضاء (٤) والانقطاع. وتمثَّل الملك في الحالة الثَّانية برجلٍ يخاطبه ويتكلَّم، فناسب التَّعبير بالمضارع المقتضي للتجدُّد، وفي حالتي الوحي على الجبلَّة صعوبةٌ وشدَّةٌ؛ ولذا كان يحدث عنه في تلك الحالة من الغَيْبَة والغطيط ما هو معروفٌ؛ لأنَّ الوحي مفارقة البشريَّة إلى المَلَكيَّة، فيحدث عنه شدَّةٌ من مفارقة الذَّات ذاتها، وقد يفضي بالتَّدريج شيئًا فشيئًا إلى بعض السُّهولة بالنَّظر إلى ما قبله، ولذلك كانت تنزل نجوم القرآن وسوره وآياته حين كان بمكَّة أقصر منها وهو بالمدينة (٥).

ورواة هذا الحديث مَدنِيُّون إلَّا شيخ المؤلِّف، وفيه تابعيَّان، والتَّحديث والإخبار والعنعنة، وأخرجه المؤلِّف في «بدء الخلق» [خ¦٣٢١٥]، ومسلمٌ في «الفضائل».


(١) في (د): «عادوا إلى».
(٢) قوله: «مناسب» زيادة من إمتاع الأسماع.
(٣) في إمتاع الأسماع: «الوعي».
(٤) في (د): «للانفصام».
(٥) قوله: «وقال في «الإمتاع»: جعل الله تعالى لأنبيائه … حين كان بمكَّة أقصر منها وهو بالمدينة» ليس في (ص) و (م).

<<  <  ج: ص:  >  >>